Home > Work > السلطة في الإسلام - نقد النظرية السياسية
41 " خارج الدائرة السنية يكاد يكون موقف الإباضية - الذي تبلور عن تراث المحكِّمة الأوائل - الموقف الوحيد في الفكر الإسلامي التقليدي الذي يتسم بالوضوح وبدرجة عالية من (المبدأية). حيث إنه يرفض التعيين بالعهد والتوريث انتصارا لمبدأ الشورى والاختيار، علما بأنه لا يؤسس خلافة عمر على مجرد العهد بل على مشورة أهل الحل والعقد. أما المطاعن التقليدية للشيعة على فكرة التعيين بالعهد فهي مطاعن مذهبية، لم تطلق لصالح مبدأ الشورى بل لصالح نظرية النص الإلهي على الأئمة، وقد استخدمت بالأساس في سياق معركة المفاضلة وللنيل من خلافة عمر وعثمان. "
― عبد الجواد ياسين , السلطة في الإسلام - نقد النظرية السياسية
42 " كان الفارابي يستنطق أفلاطون باللغة (الشيعية). "
43 " في حقبة الخلافة كان الدين غاية في ذاته، وكانت الدولة إحدى وسائله. كانت أهداف الدين هي الحافز الذي يحرك السلطة، وتعاليمه هي الضابط الذي ينظم حركته. وهذه وضعية استثنائية في التاريخ البشري، لا تحدث إلا نادرا ولبرهة وجيزة، حين يحكم الأنبياء أو أشباه الأنبياء. ومع التحول إلى الملك عادت الأمور إلى النمط الاعتيادي، حيث الدولة كيان طبيعي خاضع لقوانين الاجتماع، التي اختزلها ابن خلدون بخصوص الدولة الإسلامية بقانون العصبية. لقد استعاد الملوك الدولة من قبضة الدين، وعاد القهر يسفر عن ذاته باعتباره الجوهر الطبيعي لفكرة الدولة. "
44 " في هذا المناخ البدائي سياسيا، القريب العهد بفكرة الدولة، حيث أدى ظهور الإسلام دون أن ينص على نظام شكلي معين للحكم، إلى حركة توتير عالية في عوامل الاجتماع السياسي ذات الطبيعة القبلية، لم تكن الدولة تعني شيئا غير الملكية. وذلك رغم وجود عوامل مساعدة كان من شأنها نظريا أن توحي بمسار مختلف للتطور بعيدا عن منطقة الحكم الفردي. فقد كانت مثاليات النص الكلية التي تحض صراحة على الشورى وتنفر ضمنا من السلطة المطلقة وكانت هناك تقاليد البداوة القبلية التي عرف تراثها مسحة من الديمقراطية الطبيعية ذات الحس الفطري. "
45 " بقيت المرونة النسبية خاصية كامنة في العقل الفقهي الشيعي. وهو اكتسبها من تجربته الطويلة في التعامل مع واقع لا يعترف له بالشرعية، وفي حين كرست التقية لديه حس التداخل العملي مع هذا الواقع المخالف، سهلت له مادة (النصوص) الوفيرة والمتضاربة التي يكتظ بها تراث الإمامية، إسناد الكثير من التأويلات والرؤى، التي ستبدو مخالفة لقانون الإعتقاد الإمامي، أو على الأقل غير متطابقة معه. ولا بد هنا من إضافة القول بأن الأمر يتعلق أساسا بالبنية التيولوجية الصميمة للنظرية، التي جعلت المرونة بديلا وحيدا عن الاصطدام المدمر بحقائق الواقع. كان من المحتم على هذه البنية أن تصل إلى طريق مسدود، بعد أن حصرت الئاسة إلى نهاية التاريخ في نسل رجل واحد، ثم فرضت عليه الغيبة، واعتبرت رئاسة غيره لا مشروعة، فصار العالم إلى حالة دائمة من عدم المشروعية، رغم أن النظرية أسست ذاتها منذ البداية على عدم جواز هذه الحالة، فأوجبت على الله أن ينصب للناس حاكما وإلا اختلت الأرض لخلوها من الهادي والحجة، ولم توجب على الله نصره والتمكين له. إن في طبيعة العقل نزوعا لحل التناقض، ولكن في طبيعة الأيدلوجيا قدرة على التعايش معه. "
46 " إن في طبيعة العقل نزوعا لحل التناقض، ولكن في طبيعة الأيدلوجيا قدرة على التعايش معه. "
47 " الفكر الإسلامي لم يهتم بالتنظير لفكرة كلية شاملة عن أصل الدولة وتطورها وأهدافها وعلاقتها بالفرد والمجتمع. أما إشارتي المتكررة إلى (النظرية السلفية) في هذه الدراسة فتنصرف إلى الآراء المذهبية حول نظام الحكم أو الحكومة (لا الدولة) التي ظهرت أولا على هيئة (مباديء كلامية) ثم تحولت إلى (أحكام فقهية) تحت اسم الخلافة أو الإمامة. "
48 " كيف يُحمل الكافة (من المعاصرين) على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية (التي تتضمن كل المصالح الدنيوية)؟ من الذي يحدد مفهوم النظر الشرعي؟ وفقا لأي تفسير؟ ولفهم أي فرقة؟ ولرؤية أي مذهب؟ إلى أي مدى في مجال الإعتقاد الإيماني (كلاميا ومذهبيا)؟ وفي مجال العبادات والمعاملات. وكيف يتم الفصل بين الأخرويات الخالصة والدنيويات الراجعة إليها؟ وما الحدود التي تفصل بين سلطة الدولة ودائرة المباح أو الحرية الأصلية المقررة للأفراد في الإسلام، وهذا كله بافتراض توافر القبول الجمعي أو العام على الأقل مما يفترض بدوره كتلة متجانسة من المحكومين المنتمين إلى الإسلام والقابلين، في الوقت ذاته، بتفسير السلطة له. "
49 " فثمة ميل عام لدى المذاهب الإسلامية لإلغاء وتجاهل الأصول السياسية التي كانت سبب نشوئها في الحقيقة، وذلك بغرض إخفاء العناصر التاريخية، (البشرية) في تكوينها، وإضفاء الطابع الديني (الإلهي) عليه. "
50 " هاتان مقولاتان مختلفتان؛ الأولى: أن تكون الدعوة إلى الدين سبب تحريك عوامل نشأة الدولة، والثانية: أن يكون الدين قد أمر وجوبا بإنشاء سلطة خاصة به لفرض تعاليمه على الناس. لا وجود لهذه الأمر لأنه لا حاجة إليه، فالدولة كيان طبيعي بنشأ تلقائيا متى تضافرت عوامله في الواقع الاجتماعي، ثم إن موضوع الدين هو ثوابت المطلق بينما موضوع الدولة هو المتغيرات النسبية للاجتماع. سيكون الروح الإيماني والأخلاقي للدين هناك ليظلل على الاجتماع المتغير ولكنه لن يوقف حركة التغير. "
51 " سوف نقرأ في التخريجات السلفية المعاصرة للنظرية السنية أن الخلافة نيابة مباشرة عن الأمة، تقوم على شكل من أشكال العقد (بمعنى الاتفاق القانوني) بما يعني صراحة أن الأمة (مفهوم لا يزال ملتبسا) هي مصدر السلطة (اختيار الحاكم لا تعيين مضمون الحكم) في الإسلام. وهي رؤية تعكس التأثير النسبي لضغوط الحداثة السياسية أكثر مما تعبر عن حقيقة المسألة كما كان يتصورها العقل السياسي السلفي. فهذا المعنى لم يكن قط واضحا في مناظرات الكلام السنية حول الخلافة والإمامة، وإذا كان صحيحا أن إطلاقية النصوص سواء بالتصريح أو بالسكوت تحتمله وقد توحي به، فليس صحيحا نسبته إلى النظرية في صيغتها السلفية التي أفرزها واقع الاستبداد الأموي والعباسي. "
52 " هل ثمة علة ضرورية تربط بين الاستبداد والقمع وبين الدين ذاته؟ أم يتعين التفرقة بين الدين والحكم بالدين، من حيث أن الدين على المستوى الفدي (الإيمان الشخصي والضمير) وعلى المستوى الاجتماعي (الروح الأخلاقي العام) ليس هو الحكم بالدين أو التسلط باسمه (فرضه كقوانين تفصيلية منسوبة إلى الله)، ليصير السؤال هو: الاستبداد والقمع من طبيعة الدين إذا حكم ومن طبيعة الحكم إذا تدين؟ "
53 " يكمن المشكل في فرض الدين (وهو في ذاته سلطة كامنة) بقوة الدولة، أي في تحويل الدين إلى قانون وضعي. لا يصح ذلك فقط بالنسبة لمجتمع متعدد الأديان، أو متعدد المذاهب مع اتحاد الدين، بل أيضا بالنسبة للمجتمع الذي يشترك أفراده في الدين والمذهب، إذ سيظل خيار الرؤية في العقيدة (قوانين الإيمان) وفي الفقه (تشريعات التكاليف) مبصوما ببصمة الحاكم (أو الحكومة) الذي سيمتكل سلطة الإلزام الكامنة في النص الشرعي، فضلا عن إلزام السلطة المستمد من فكرة الدولة. "
54 " ليست الخلافة نظرية في الدولة، ولا في الحكومة. ويمكن اعتبارها نظرية في الحاكم الذي كان يختزل في الواقع وفي الذهن السلفي مضمون الدولة والحكومة معا. فالفكر الإسلامي التقليدي الذي لم يعرف المجتمع كمفهوم سياسي، ولم يعرف فكرة (الدولة في ذاتها) أي الدولة ككائن اجتماعي مجرد وغير موصوف، ولم يعرف فكرة (الحكومة) المتمايزة عن الدولة وعن الحاكم جميعا. "
55 " من زاوية التأريخ للدولة يمكن الحديث إجمالا عن ثلاث دول متعاقبة، بثلاثة أشكال للسلطة تحت مسمى الخلافة؛ الأولى: هي دولة الراشدين التي نتجت عن السقيفة، والثانية: هي الدولة الملكية التي انبثقت من الفتنة الكبرى، والثالثة: هي دولة التفويض السلطانية التي أنشأها البويهيون في القرن الرابع. ولكن تاريخ النظرية السنية لم يبدأ إلا بعد انتهاء الدولة الأولى، وأخذ في التشكل خلال الدولة الثانية، وانتهى عمليا قرب زوال الولة الأخيرة، أعني أن تاريخ التنظير لم يتطابق مع تاريخ الدولة منذ البداية ثم عاد ليتطابق معه لفترة طويلة من الزمن مما يفسر التداخل بين تاريخ الدولة وتاريخ النظرية، ويظهر النظرية أحيانا وهي تستعيد - كرد فعل لاستفزاز الواقع - حوادث الماضي للبناء عليها بأثر رجعي، ويظهرها في أحيان أخرى وهي تكرس المفاهيم - الصادرة أيضا عن اعتبارات الواقع - ثم تصدرها إلى المستقبل بعد خدمتها إسناديا (بالتنصيص غالبا) وإخراجها فقهيا فعلى مدى حقبة التنظير الأولى ظلت القنوات مفتوحة بين (الفقه) و(التحديث) و(المحازبة). "
56 " في ترتيب النظرية يأتي الاستخلاف بالعهد في المرتبة الثانية تاليا للاختيار من أهل الحل والعقد ولكنه ظل يمثل في الواقع التاريخي الوسيلة الأولى، أعني الأكثر تكرارا بين وسائل إسناد السلطة بسبب التحول إلى النظام الملكي الوراثي. ففي حين لم يشهد تاريخ الدولة الإسلامية تطبيقا حقيقيا كاملا لمبدأ الاختيار من أهل الحل والعقد، كان توريث الحكم بعهد الخليفة إلى ابنه هو القاعدة المضطردة التي لم يكن يقطعها إلا انتقال السلطة، عبر التغلب بالقوة، من أسرة حاكمة إلى أسرة حاكمة أخرى. "