Home > Work > السلطة في الإسلام - نقد النظرية السياسية
1 " اعتبرت دائما تسمية علم الاجتماع، وعلم التاريخ، وعلم النفس، تسميات مجازية. من حيث أن ظاهراتها لا تخضع لقوانين العلية، ولا يجدي من ثم أن تكون موضوعا للتجربة. وما من ظاهرة اجتماعية إلا وتختزن في داخلها ظاهرة تاريخية وأخرى نفسية، وهو ما يزيد المسألة تعقيدا. لا يمكن أصلا حصر (العوامل) بتركيبها وعلاقاتها البينية، وعلاقات أجزائها الداخلية، وتفاعل ذلك مع التفصيلات اللا نهائية للذات الإنسانية من جهة الوعي والغاية والسلوك على المستويين الفردي والجماعي. "
― عبد الجواد ياسين , السلطة في الإسلام - نقد النظرية السياسية
2 " ووفقا للنظرية إذا بايع أهل الحل والعقد رجلا فصار إماما (ولزم كافة الأمة الدخول في بيعته والانقياد لطاعته). ولكن النظرية - سواء في الفقه أو الكلام - لم تناقش صفة أهل الحل والعقد كطرف في عقد الإمامة؟ ما الذي يجعل بيعة أهل الحل والعقد ملزمة للأمة، وهل هم طرف أصيل يمثل ذاته؟ فمن أين استمدوا هذه الصلاحية؟ أو هم وكلاء عن الأمة فمن الذين فوضوهم وما سند هذه الوكالة؟ وهو موقف مفهوم يعكس الغياب الأصلي لدور الشعب أو جمهور الأمة في عملية الحكم، ويشير إلى غياب الأمة كمفهوم سياسي، وإن كانت حاضرة كمفهوم ديني يرادف مباشرة معنى الإسلام ذاته. "
3 " ومع أن يزيد كان فاسقا، حسب ابن خلدون، إلا أن (الصحابة الذين كانوا معه بالشام وبالحجاز والعراق) لا يأثمون بمخالفة الحسين وقعودهم عن نصره لأنهم (رأوا أن الخروج على يزيد وإن كان فاسقا لا يجوز لما ينشأ عنه من الهرج والدماء). ورغم أنهم لا يرون خروج الحسين جائزا، إلا أنهم لا يعدونه بغيا يستحق القتال. ولذلك يخطّيء ابن خلدون القاضي أبا بكر بن العربي الذي صرح في كتابه الشهير (العواصم من القواصم) أن (الحسين قُتل بشرع جده) يعني بذلك أن خروجه كان بغيا على الدولة يستحق المواجهة. ويحتج ابن خلدون بأن (قتال البغاة عندهم من شرطه أن يكون مع الإمام العادل، وهو مفقود في مسألتنا؛ فلا يجوز قتال الحسين مع يزيد ولا ليزيد، بل هي من فعلاته المؤكده لفسقه، والحسين فيها شهيد مثاب، وهو على حق واجتهاد، والصحابة الذين كانوا مع يزيد على حق أيضا واجتهاد). وهكذا بمعيار الصحبة، يساوي ابن خلدون بين الحسين والذين كانوا مع قاتل الحسين. وفيما لا يجيز الخروج على يزيد، لا يجيز ليزيد مواجهة الخارج عليه وهو يخلط في سبيل ذلك بين مثاليات الدين الممزوجة بميله العاطفي للحسين وبين شروط الفقه السني العملية التي لم يكن من بينها أن يكون الإمام عادلا حتى يعد الخروج عليه بغيا. "
4 " كان التصور الشيعي وهو ينصص موقفه من موقع المعارضة يُديّن السياسة، بينما اكتفى رد الفعل السني، وهو يقبض على السلطة، بتسييس الدين. وهو التفاوت الذي سيلقي بظله على حجم المشكل الذي تواجهه كل من النظريتين على حدة مع حركة التطور وضرورات الحداثة. "
5 " تعامل العقل السلفي، خصوصا المالكية والحنابلة، مع فكرة الاختلاف في الرأي من داخل المفهوم الفقهي للبدعة. ولأن المذهبية الدينية نشأت أساسا عن اختلاف سياسي في الرأي كان من السهل الخلط بين الرأي السياسي والبدعة الدينية، التي كانت تقدم من خلال اعتبارها إفسادا في الأرض، مبررا لقتل المخالف المسلم في حالة تعذر المبرر الأصلي للقتل وهو التكفير. "
6 " وهكذا يكون ابد رشد قد نزل بالدولة الأموية عن درجة الحكم الفاضل، ولكنه ألحقها بدولة المجد والشرف التي يعتبرها أفلاطون (قريبة نوعا ما من المدينة الفاضلة)، ولم يصفها بالدولة المستبدة فإلى أي مدى يمكن الوصول بالنقد الذي وجهه ابن رشد لهذه الدولة؟ هل كان يقصد مجرد إخراجها من رتبة المدينة الفاضلة إلى الرتبة التالية في سلم أفلاطون، بمعنى إثبات أنها تقوم على الفضائل وإن لم تكن مقصودة لذاتها بل لمجد حكامها، أم كان يشير إلى خصائص الاستبداد الكامنة في الحكم الأموي؟. لا شك أنه كان يوجه اتهاما مباشرا إلى الدولة الأموية بالانحراف عن طريق الشرع الذي يمثل عنده معيار الدولة الفاضلة واتهاما مبطنا بالاستبداد، وإلا فإن مجرد إلحاقها بدولة المجد والشرف سيكون تكرارا، على وجه التقريب، للرؤية السلفية التقليدية التي تصطنع بالفعل فارقا شفافا (غير مؤثر من جهة الشرعية) بين دولة الراشدين بحكامها (الخلفاء) والدولة الأموية بحكامها (الملوك)، وهي الرؤية التي ساندتها في الفقه السلفي السني عدة روايات مرفوعة كان الغرض من اصطناعها إسباغ الشرعية على حكم الملوك، الذي بدا في أول الأمر لدى جمهور المسلمين خرقا فادحا لمثاليات الشريعة. "
7 " كانت القبائل قد بدأت في تقبل الإسلام والتفاعل معه كدين، وليس كحلف مفروض بفعل الحرب وقوة الدولة، وكانت ظاهرة القراء هي التجلي الأول لهذا التفاعل، الذي كان يتم في وسط سياسي واجتماعي مضطرب. منذ البداية نحن أمام حركة معارضة تمارس السياسة بأدلة احتجاج دينية. ظهر ذلك في تمرد الكوفة على سعيد بن العاص وما يمثله من سلطة عثمان، وفي ثورة المدينة على عثمان ذاته، ثم في الإنشقاق على علي الذي انتهى بظهور فرقة تتكيء كثيرا على مفهوم المعارضة. كان القراء أول تيار جماعي في تاريخ الإسلام يمارس حق الاعتراض على الحاكم باعتباره حقا قرآنيا يستند إلى صلاحية الشورى، ومبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تأسيسا على أن المرجعية الإلهية التي يمثلها الحكم القرآني أعلى من المرجعية البشرية التي يمثلها الحاكم القرشي. ورغم خشونة الأداء التي طبعت معارضة القراء والتي يرجع بعضها إلى طبيعة الروح القبلي، وبعضها إلى نمط التدين غير الناضج، إلا أنها لا تتحمل مسؤولية المسار المأساوي الذي اتخذه تاريخ الدولة والدين في الإسلام منذ الفتنة. فضمن عوامل متداخلة بلزم البحث في مسؤولية استئثار قريش بالسلطة، والصراع الداخلي في قريش على السلطة، وسياسة الغزو أو حروب الفتح. "
8 " تفترض هذه الدراسة أن التشيع - وليس المشترك من الدين كما يفهمه الشيعة - هو ظاهرة تاريخية؛ بمعنى أنها أولا: ظاهرة حادثة (تالية على زمن النص التأسيسي)، وأنها ثانيا: ظاهرة اجتماعية (نشأت بشكل مباشر عن أسباب سياسية ذات أبعاد ثقافية عقلنفسية). ومع أن هذه القاعدة تسري على جميع المذاهب الإسلامية، من حيث أنها تطويرات منقحة للفرق الرئيسية الثلاث التي تشظت عن الإنفجار السياسي الأول (الفتنة الكبرى)، واكتسبت تدريجيا، من خلال الجدل الكلامي، أنساقها المتمايزة والمغلقة، على مستوى الفقه والأصول والتفسير والحديث والتاريخ، ثم كفت كل منها عن الإشارة إلى أصولها السياسية، زاعمة أن رؤيتها هي التي تمثل صحيح الدين (قبل الإفتراق). مع ذلك فإن هذه القاعدة تعبر عن ذاتها بشكل أوضح في التشيع، من خلال جسامة الحضور السياسي في بنيته الموضوعية، حيث يرتبط الدين بالسلطة (الإمام) ارتباطا دائما لا ينقطع رغم الغيبة. وهو ما سبق أن عبرت عنه بأنه بينما اكتفى الفكر السني ( السلطة السنية في الواقع) عبر نظرية الخلافة، يتسييس الدين، قام التشيع في نظرية الإمامة بتديين السياسة. "
9 " وهكذا كانت فكرة الحضور الدائم (للجماعة) تغطي غياب الدولة في الفكر الإباضي، وهو دور لم تستطع هذه الفكرة أن تلعبه في الفكر الشيعي بسبب طبيعة الإمام ذات البعد الإلهي، التي لا يغني عنها شيء، ولا يملأ فراغها أحد. أما في الفكر السني فلم يكن لهذه الفكرة دور تلعبه، بسبب الحضور الدائم للدولة طوال حقب التدوين الفقهي. في الفكر السني المعاصر الذي يتبنى فكرة غياب الدولة (الإسلامية)، يعود المشكل ليطرح نفسه من جديد ولكن فكرة الحضور الدائم للجماعة (بهذا المعنى الإباضي) لم تعد قادرة على أن تلعب أي دور، لأنها لم تعد موجودة أصلا. بسبب تغير التركيبة الاجتماعية والسياسية وتشابك علاقتها بالدين، وقوة الدولة. "
10 " وبقدر ما تتوزع السلطة بين الكثرة بقدر ما تكون الحكومة سيئة عند أفلاطون. ولذلك فالحكومة المثلى كما شرحها في محاورة القوانين (هي الحكومة التي تلتقي فيها السلطة السيدة مع الحكمة والحصافة في شخص رجل واحد). أما أرسطو الذي يحبذ دولة الأرستقراطية، أو حكومة الأخيار التي على رأسها ملك أخلاقي ومتميز عقليا، فيوجه النقد إلى ديمقراطية أثينا البريكلية لأنها كانت تقدم سلطة الشعب على سلطة القوانين من خلال التصويت على تغييرها باستمرار/ مما حول (الشعب) إلى طاغية مؤلف من كثرة يقودها الديماجوجيون الذين تنحصر مهمتهم في تملق الشعب وتحريضه. "
11 " مقارنة بالفقهين الشيعي والسني، يبدو الفقه الإباضي أقل إحساسا، ومن ثم أقل اهتماما، بضرورة الدولة وفكرة وجوبها. في التصور الشيعي ليست الإمامة واجبا ككل الواجبات، بل ركن الدين الأول، الذي من خلاله تدرك بقية الأركان والواجبات على النحو الذي أراده الله، وفي الفقه السني إجمالا تعد الإمامة واجبا شرعيا لازما لحراسة الدين وقيامه على وجه الكمال. أما الفقه الإباضي فيبدو مترددا إلى حد ما بين القول بوجوبها والقول بجوازها، كما أنه يذهب إلى جواز تعددها. "
12 " ورغم الكثير الذي يمكن قوله عن عدم تطابق الديمقراطية التي مارستها أثينا بين القرنين السادس والرابع قبل الميلاد مع النموذج الحديث للديمقراطية الغربية، من ناحية أن الأولى كانت ديمقراطية بسيطة (مباشرة) لم تعرف فكرة التمثيل النيابي أو التعددية الحزبية والمعارضة المنظمة ولم تستند بشكل واعي إلى مبدأ (الحقوق الفردية) الإنسانية الذي تقوم أو يجب أن تقوم عليه الديمقراطية الحديثة وفقا لمنظريها الأمريكين الثلاثة إمرسون وويتمان وثورو، إلا أن مفهوم الديمقراطية حين حضر من اليونان إلى ساحة الفكر السياسي الإسلامي حضر محملا بالمضامين الأصلية الخام للفكرة المناقضة بطبيعتها لروح الحكم الفردي، فمهما قيل عن مساويء التجربة السياسية اليونانية وبدائيتها سيكون من العبث إنكار ريادتها التاريخية في إقرار مبدأ المشاركة الشعبية في الحكم، وممارسة قدر غير مسبوق من الحرية والمساواة بالنسبة لمجتمع مدني محكوم بسلطة. "
13 " سحق يزيد تمرد المدينة بقسوة بالغة سنة 63 هـ. واستباحها جنوده ثلاثة أيام بالقتل والاغتصاب، وأكرهوا من بقي من الرجال على مبايعة يزيد باعتبارهم عبيدا له. وهناك، كان عليّ زين العابدين، ولد الحسين الناجي الوحيد من كربلاء يشهد للمرة الثانية همجية الذبح الأموية، وحين عُرض عليه أن يبايع يزيد كأخ وابن عم، وليس كعبد مثل الآخرين أبدى استعداده للبيعة كعبد قن كما بايع الآخرون. ولهذا دلالته على عمق التأثير الذي تركه القمع الأموي في زين العابدين وتوجيهه إلى موقفه الإنسحابي المهادن، الذي سينتقل بدوره إلى ابنه محمد الباقر. "
14 " لا بد من القول: بأن وضعية الشحن الأيدلوجي، وإن أدت في التجربة الإباضية إلى نزع السلطة المطلقة من الحاكم الفرد، فقد وضعت هذه السلطة في يد الجماعة، ممثلة في هيئة العلماء، التي احتكرت على الدوام صلاحية تفسير النص، وفرضت رؤية أحادية الجانب، تحت تهديد البراءة، التي ظلت سيفا مسلطا على حرية التفكير، بحيث صار من المستحيل لأية آراء أو رؤى مغايرة أن تتطور بالمجتمع الإباضي. لقد تم في الواقع، استبدال دكتاتورية الإباضية الجماعية بدكتاتورية الحكم الفردي السنية. "
15 " كرد فعل لكربلاء قامت حركة التوابين التي رفعت شعارا واحدا هو الثأر لمقتل الحسين، والتي يمكن اعتبارها لذلك الحركة الشيعية المسلحة الأولى. ورغم اخمادها من قبل الجيش الأموي خلال وقت قصير، إلا أنها أبقت على ذكرى كربلاء، وفرضت على الساحة شعار الثأر للحسين، الذي سيلعب دوره في تجميع المتعاطفين مع البيت العلوي ويظل عنوانا للحركة الشيعية طوال المرحلة اللاحقة. وهو الشعار ذاته الذي رفعه المختار بن أبي عبيد الثقفي عنوانا لحركته الداعية إلى محمد بن علي بن أبي طالب. ورغم ما يثار عن شخص المختار من مشكلات تتعلق بغنوصياته الغريبة، أو بطموحاته المضمرة، إلا أن الحركة التي أطلقها وهي الحركة الكيسانية مثلت الكتلة الرئيسية في التشيع المبكر كله، وقادته من خلال تياراته المختلفة والمتنافسة، إلى حالة التشرزم التي سبقت ومهدت لظهور الإمامية. وهكذا يمكن لنا أن نرصد لكربلاء أثرا (مباشرا) في انبثاق حركة التشيع المبكر وبالتداعي أثرا (غير مباشر) في ظهور الإمامية باعتبارها تطورا عن هذه الحركة. "
16 " تركت الظروف الشخصية للباقر آثارها الضرورية في تكوينه النفسي، وهو يتشكل عموما في مرحلة الطفولة حيث تتكون الخصائص الفردية، التي تظل ماثلة في الفكر والسلوك، على مدى المراحل التالية. شهد الباقر في طفولته المبكرة مذبحة كربلاء، حيث رأى بعينيه مقتل جده الحسين وأفراد عائلته، ثم شهد في طفولته المتأخرة مذبحة أموية أخرى في المدينة هي مذبحة الحرة، حيث رأي والده زين العابدين وهو يظهر حيال السلطة خضوعا زائدا عن الحد المطلوب، بحيث يبدي استعداده بحسب مؤرخ شيعي كاليعقوبي - لأن يبايع يزيد بن معاوية، لا على السمع والطاعة فقط كواحد من الرعية، بل كعبد.. من العيبد. وقد عايش الباقر والده لمدة تزيد على أربع وثلاثين سنة، واكتسب منه، بغير شك، مسلكية الانسحاب التي مارسها زين العابدين طوال حياته، واكتسب منه، على الأرجح، شيئا من الروح الصوفي الذي يعرف عنه وتحتفي به الدوائر الصوفية. "
17 " وإذا كان لفظ الرعية قد استخدم في الإسلام النصي، ففي سياق يستدعي معنى (الراعي) الذي يتحمل مسؤولية الرعاية والحماية، وهو معنى عام لا يقتصر على الحاكم، ففي الحديث النبوي (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته). أما مفهوم الرعية في التجربة السياسية الإسلامية وفي الفكر السياسي الموازي لها فيستدعي معنى (المرعِّي) القاصر والعاجز، المحتاج دوما لقوة الحكم وسطوته، ويثبت معنى التدني في الرتبة الذي يستلزم الخضوع والطاعة، وهي المعاني التي أفضت في سياقها العملي إلى تبرير التسلط والقهر وتأصيل الاستبداد الذي كان السمة الأوضح بين سمات الحكم في الدولة السلطانية الإسلامية. ورغم أن كتب السياسة السلطانية تحفل بنصائح متكررة للملوك حول العدل في الرعية والرفق بها والتجاوز أحيانا عن زلاتها وأخطائها، إلا أن ذلك ينبغي أن يقرأ في إطار الطبيعة البراجماتية للكتابة السلطانية وغرضها الأساسي المتمثل في تدعيم مؤسسة الملك وضمان استقرارها، وفي هذا السياق تبرز أهمية الرعية باعتبارها موضوعا لسلطة الملك، والحفاظ عليها حفاظ على جسم الدولة ومصدر المال الذي يحتاجه السلطان لكفالة الجند والأعوان. "
18 " في التصور اليهودي كان الأنبياء هما الملوك. الصورة الأوضح لتماهي الدين والدولة ولأن تاريخ اليهود يكاد يكون حالة سياسية متواصلة سواء كان أو لم يكن ثمة دولة، فمن الصعب الفصل داخل هذا التصور بين الدين والدولة، الدولة حاضرة في الدين، والدين، بكيفية تاريخية معقدة، حاضر في الدولة. "
19 " يرى ابن خلدون أن (الملك هو التغلب و الحكم بالقهر). ولذلك ( إذا كانت الأمة وحشية "مثل العرب" كان ملكها أوسع، وذلك لأنها أقدر على التغلب والاستبداد). ولما كان الملك هو الشكل الطبيعي الاعتيادي للحكم، كان بإمكاننا أن نستنتج على ابن خلدون أن الاستبداد من طبيعة الدولة. وهو بذلك يقترب بشكل نسبي مما أسميته قانون (التسلط) الذي أراه، في التحليل الأخير، جوهر الدولة، وأول قوانينها الأساسية الداخلية الحاكمة. وهنا سأفرق على الفور بين قانون التسلط المرتبط بفكرة الدولة في ذاتها وبين الاستبداد الطبيعي الذي يربطه ابن خلدون بدولة الملك؛ الأول لا يطابق الثاني. الاستبداد أحد صور التسلط وهو الصورة غير المشروعة منه. التسلط يشير بإيجاز إلى فكرة (الإلزام) الذي قد يرجع مصدره إلى قوة التغلب المادية (الاستبداد)، أو إلى القانون، ومع أن الإلزام في جميع حالاته يتحلل أخيرا إلى قوة قهر مادية، إلا أنه في حالة الانبثاق عن القانون ينبيء عن قبول المحكومين بفكرة الإكراه المتضمنه في السلطة، فمن حيث هو طوعي فهو اتفاقي ومستهدف لصالح المجموع بالافتراض. ومن ثم فإن التسلط يبقى جوهر الدولة أيا كان نظام الحكم القائم ملكيا أو جمهوريا، استبداديا أو ديمقراطيا، ويتمثل الفارق في (قانونية) القهر ومداه أي في الشرعية الاجمالية للسلطة من حيث المبدأ، وهي التي تمنح الحق في الحكم، من ناحية، وشرعية الممارسة التفصيلية للسلطة، وهي التي تعكس حجم حضور فكرة الحرية من ناحية أخرى. "
20 " داخل الفكر الإسلامي المعاصر، تصر الكتلة السلفية، وهي نواته المركزية، ليس فقط على تبني النظرية بما هي تراث له صلاحياته الإلزامية، بل أيضا تبني التاريخ السياسي الذي أنشأها، والذي لا ينفك عن تاريخ العقل. أما التيار الأكثر تسييسا داخل هذا الفكر فيتعاطى في عمومه منهجية الدفاع المركبة التي تعترف بوجود الاستبداد في (بعض) مراحل التاريخ الإسلامي ولكنها لا تعترف بوجوده في النظرية. ويرجع ذلك إلى الخلط الذي أشرت إليه سابقا بين النظرية وبين مباديء القرآن الكلية في الشورى والعدالة والمساواة. فهي تهب للدفاع عن (نظام الخلافة في الإسلام) باستحضار هذه المباديء الكلية، في حين أن هذا النظام الأخير ليس من صنع هذه المباديء، بل من إنتاج النظام القبلي العربي الجاهلي في حقبته الأولى، ومن إنتاج الواقع الاستبدادي الذي فرضته الأنظمة الملكية اللاحقة في حقبته الثانية. وهو ما صاغته النظرية في جملة من القواعد والأحكام، واصطنعت لخدمته جملة أخرى من الروايات التي لا تمت بأي صلة إلى الشورى والعدالة والمساواة، يتم التعامل معها باعتبارها نصوصا مرفوعة. "