Home > Work > السلطة في الإسلام - نقد النظرية السياسية
21 " وكذلك تبدو المسألة في التصور السلفي كما لو أن ثمة خيارين اثنين: إما قبول الظلم وإما الخروج للقتال، حيث يصير ضرر الظلم أخف من ضرر الدماء، لم يرد في الخيال النظري بديل ثالص يتعلق بتنظيم الاختلاف مع السلطة الحاكمة أو معارضتها دون قتال، وذلك لسبب واضح وهو أن فكرة الاختلاف السلمي مع السلطة الحاكمة لم تكن حاضرة في الواقع السياسي، حيث كان الحاكم ينظر إلى كل خلاف بوصفه خروجا ينطوي على تهديد إن لم يكن حالا فهو محتمل لكرسي الحكم، الأمر الذي كرسه المسار الدموي الذي اتخذته الأحداث منذ الفتنة الكبرى حيث اختلطت المصالح السياسية بالدعاوى الدينية في وقت مبكر من حياة مجتمع كان بالكاد يلامس فكرة الاتصال بفكرة الدولة. "
― عبد الجواد ياسين , السلطة في الإسلام - نقد النظرية السياسية
22 " في القواعد النظرية لعلم الحديث التقليدي يعتبر اضطراب المتن أحد الأسباب التي تؤدي إلى تضعيف الحديث، لكن الشراح، لا سيما إذا تعلق الأمر بمرويات البخاري ومسلم، يميلون على نحو دفاعي إلى استخدام وسائل تأويلية تؤدي إلى نفي الاضطراب، كما فعل ابن حجر من خلال القول بتكرار المناسبة لتكرار الحديث. ولكن أخطر ما في المسألة هو مقدار التسيب الاستدلالي الذي انطوت عليه العملية الفقهية وهي بصدد تسكين هذه المرويات على فريق بعينه، وما يوحي به من استسهال مذهل في التعامل مع مفردة القتل، على نحو متكرر، كحكم تكليفي واجب أو مندوب، هو في النهاية منسوب إلى الشريعة. "
23 " عكست نظرية الخلافة بشكل حرفي الطبيعة الأوتقراطية للسلطة في الدولتين الأموية والعباسية. بينما عكست نظرية الإمامة الرؤية الثيوقراطية ذات النزوع الوجداني للمعارضة الشيعية. وحيال الصلاحيات الأوتقراطية المخيفة للخليفة السني، والصلاحيات الثيوقراطية المطلقة للإمام الشيعي يصعب الكلام عن الشورى ولو بمعناها اللغوي القريب (أخذ الرأي) في النظريتين. "
24 " كانت هيمنة قريش معلنة بشكل رسمي منذ السقيفة، امتدادا لسلطة الرسول مؤسس الدولة. ولكنها لم تستتب فعليا إلا بعد الانتهاء من حروب (الردة)، التي كانت بخلفياتها الاجتماعية والثقافية حروبا قبلية ضد هيمنة قريش وسلطة الدولة المركزية. كانت كذلك على الأقل من وجهة نظر القبائل التي لم تعهد من قبل تجربة الدولة، ولم ترفي اتفاقاتها السابقة مع الرسول أكثر من تحالفات سياسية كتحالفات القبائل في الجاهلية، تنتهي بوفاة عاقدها، وهي فرصة للتحلل من الالتزام بالزكاة، التي نظرت إليها كإتاوة مالية مهينة يفرضها الغالب على المغلوب، لا كفريضة دينية منزلة من عند الله. ولذلك فإن تمرد هذه القبائل بعد وفاة الرسول، لم يكن في حقيقته خروجا من الدين، بل خروجا من الحلف السياسي ومشروع الدولة الذي يمثله. لم تكن هذه القبائل، التي دخلت دخولا جماعيا ببيعة شيوخها وزعمائها، قد فهمت الإسلام أو اهتمت به ولا توفرت على الوقت اللازم لتشربه كعقيدة وأحكام، ولذلك فإن المنطوق الحرفي لمصطلح الردة بمعنى الخروج من الدين بعد الدخول فيه لا ينطبق عليها. "
25 " ورغم خروج الفكر الشيعي مبكرا على حجية الإجماع طلبا لحجية أصولية مناقضة لحجية الخصوم السلفيين، ورغم نزعة الاجتهاد اللاسلفية التي تميز الفكر الشيعي داخل دائرتي الكلام والفقه الفرعي، إلا أنه فيما يتعلق بالإمامة وهي أصل الأصول لديه، يُعد العقل الشيعي الأكثر سلفية بين العقول الثلاثة - السنية والشيعيو والإباضية - وبالتالي الأكثر تعقيدا في مشكلته مع العصر والحداثة. "
26 " إن آلية السند ذاتها تقوم على أسس مذهبية انتقائية فيما يتعلق بقائمة الرجال وقواعد الجرح والتعديل مما يوفر لكل مذهب حجة (شرعية) جاهزة لرد الأحاديث التي يستند إليها المذهب المخالف، بحيث يصبح مضمون ما يروي الراوي هو معيار جرحه أو تعديله، وليس جرحه أو تعديله معيار قبول الرواية أو ردها. "
27 " بالقياس إلى النظرية السنية، التي تنكر فكرة التفويض الإلهي، وتقوم على مبدأ الاختيار البشري للحكام، والتي قد تنطوي رغم ذلك - في بعض أوجه التطبيق - على عناصر ثيوقراطية مختلطة، تبدو الإمامية نظرية ثيوقراطية خالصة، فالإمام معين من قبل الله، وهو ليس مجرد حاكم سياسي بل أساسا مرشد روحي معصوم ومؤيد من السماء. وهذا يلخص جوهر أزمتها مع الحداثة، في مقابل الأوتقراطية التي تختزل إلى حد كبير عنوان المشكل مع الخلافة السنية. "
28 " لا يمكن اعتبار حروب (الردة) حروبا دينية، لأن الدين لا يفرض بالحرب إذ لا معنى له حينئذ، والقرآن صريح في أنه (لا إكراه في الدين). كانت هذه الحروب حروب الدولة الناشئة التي كانت تمرد القبائل يمثل تهديدا لوجودها. الدولة هنا ليست دولة الدين، بل هي الدولة في ذاتها، ككائن اجتماع طبيعي، حساس لغريزة الدفاع عن النفس، وينزع للقوة. والردة هنا ليست ردة عن الدين (فلم يكن المرتدون قد دخلوا فعليا ولا عُرض عليهم عرضا ذاتيا نافيا للجهالة. فقط دخل زعماؤهم في حلف الدولة المنتصرة، وبعضهم لم يدخل أصلا). بل هي ردة عن الدولة. "
29 " كانت هذه خطوة ضرورية بالنسبة إلى عمر الذي كان بصدد الاندفاع في سياسة الغزو والفتوح، ومن ثم بحاجة إلى حشود كبيرة لرفد الجيوش، مما دفعه لاسترضاء القبائل تمهيدا للزج بها - خلافا لسياسة أبي بكر - في العمليات العسكرية. من جانبها وجدت كثير من القبائل في حروب الفتح وسيلة للإندماج في السياق الإسلامي ودولته التي بدت قوية وناجحة، وذلك من خلال التكفير عن ماضيها المرتبط بالردة. ومع الاانتصارات التي حققتها الجيوش الإسلامية، والغنائم التي جلبتها بوفرة غير مسبوقة، أضيف دافع جديد أمام القبائل للإنخراط في عملية الغزو. "
30 " لم يكن (المحكوم) إذن طرفا في معادلة الحكم في النظريات الثلاثة - السنية والشيعية والإباضية-، وبالنسبة للنظريتين الرئيستين كان ثمة محور واحد تدور حوله كل منهما هو (الحاكم). إما الحاكم السني (الظالم) الذي في السلطة، أو الحاكم الشيعي (المظلوم) الذي في المعارضة. حق الأول الطاعة وإلا السيف، وحق الثاني أيضا الطاعة وإلا النار. أما المحكوم المهمل في الخلفية فإن التصور الذي يستدعيه تعامل النظريتين معه لا يوحي بمعنى الحرية ولا المشاركة، ولا يرشح لتثبيتهما ضمن المعطيات الاجتماعية أو السياسية بل على النقيض من ذلك يرشح لتكريس معنى الخضوع ومسلكية الصمت. "
31 " لم يكن رفض مبدأ (الأئمة من قريش) خيارا (فقهيا) قاد إليه التأمل في الأدلة بعد تكون الخوارج، بل كان أصلا سياسيا كامنا خلف أسباب التكون، يرتد بجذوره إلى ما قبل. كان تعبيرا - ليس بالضرورة واعيا تماما - عن رفض الخضوع لهيمنة قريش، من منطلقاته السابقة على الإسلام، التي توافقت مع مباديء القرآن في المساواة والشورى. كانت هذه المنطلقات القبلية حديثة العهد، قد لعبت دورها في توجيه العقل الخارجي باتجاه تلك المباديء وفهمها على النحو الذي انتهى إليه، وليس على النحو السائد الذي فرضته قريش، ولنا في هذا السياق أن نقرأ الخارطة القبلية للمحكمة لنلاحظ أنها تكونت من فريق ليس في قيادته ولا في المجموع التي انضمت إليه منذل حروراء قرشي واحد، وأن هذه القيادات تنتمي في الغالب إلى قبائل سبق لها مقاومة نفوذ قريش من خلال الردة. "
32 " أما قبيلة بني حنيفة التي لم تقبل أصلا الدخول في حلف الرسول أنفةً من التبعية لقريش، وعرضت عليها تقاسم السلطة في الجزيرة، وحاربت في سبيل ذلك حربا مريرة في اليمامة بقيادة المتنبيء مسيلمة، بعد أن أصر أبو بكر على إخضاعها لسلطة الدولة، هذه القبيلة هي التي ينتمي إليها نافع بن الأزرق، ونجدة بن عامر، زعيما الفرقتين الأكثر تطرفا بين فرق الخوارج؛ الأزارقة والنجدات، وفي تاريخ الفرقة الأخيرة بوجه خاص، إشارات تدل على أصالة التوجه القبلي وارتباطه باليمامة عاصمة بني حنيفة. "
33 " وربما كان عليّ الآن أن أفصح عن قناعتي بأن العوامل التاريخية - بشكل عام - لا تمارس تأثيرها في الواقع الاجتماعي، أي لا تحدث (التحولات)، عن حتمية ضرورية كالحتمية العلية في قوانين الطبيعة، بحيث يكون ما حدث؛ هو ما كان يجب أن يحدث، ولم يكن بوسعه أن يحدث بشكل آخر. "
34 " أما المخاوف التي يثيرها مصطلح الدولة الدينية في الفكر السياسي المعاصر، فتدور بالأساس حول احتكار التفسير في النص الديني، في حكومة دينية ستنتهي سلطة التفسير بالضرورة إلى الدولة، وهو ما يجعل منها في الواقع مالكة السلطة الإلهية الكامنة في النص، وهي سلطة مطلقة بطيبعتها وحصنة بعقوبات تصل إلى حد الموت. مما يعني أنه ليس بإمكان دولة دينية ( تحكم بتشريعات مستندة إلى إلزام ديني) تجنب ضرب من التفويض الضمني. وفي هذه الحالة تكون الدولة قد جمعت في قبضتها بين السلطتين: السلطة الطبيعية (للدولة في ذاتها) ، وسلطة التفويض الضمني السماوية. وفيما تعد الحرية الفردية للإنسان يقينية بالطبيعة وبجوهر الدين، تظل نتيجة تفسير النص ظنية في معظم الأحوال. "
35 " كان ثمة بالفعل معركة تبادل فيها أهل البيت الاتهامات بالكذب والجحود والحسد، وادعى الجميع أن له حقا في الرئاسة (التي كانت عمليا في يد غيرهم)، وحينئذ بدا القول ضرورة النص على (الإمام) حلا ملائما، فظهر القول بالنص. "
36 " على أنه ما من ظاهرة أيدلوجية أو دينية إلا وتجاوزت شخص مؤسسها، بحكم التفاعل مع الواقع المتغير من جهة الأتباع وجهة الخصوم على السواء. يتحول المؤسس مع الزمن إلى (نص) تتراكم حوله الشروح وإضافات التنظير، مكونة في الغالب بنية نظرية ذات أبعاد أوسع، لا يكفي لقرائتها منهج التحليل النفسي. "
37 " وهكذا في ظل الاعتراف المقنن بولاية المتغلب، فإن موقف الحنابلة عموما - ورغم بعض عبارات الفراء التي تنسب الاختيار إلى أهل الحل والعقد بعد موت الإمام - لا ينطوي على معارضة فقهية للسلطة المطلقة للخليفة وانفراده دون الأمة باختيار الحاكم. على المستوى السني إجمالا لم تظهر هذه المعارضة، ولم تُناقش القضية من جهة التوافق أو عدم التوافق مع مبدأ الشورى. فقد كانت السلطة المطلقة للحاكم المكرسة عمليا بحكم الواقع والمؤسسة فقهيا على وجوب طاعة ولي الأمر قد اكتسبت حصانة (دينية) كاملة. كان مبدأ الشورى ذاته قد سبق اختزاله نظريا في هيئة الحلو العقد، التي اختزلت بدورها في عدد محدود تراوح في تقدير النظرية السنية بين خمسة أفراد وفرد واحد ومع تواصل النظام الوراثي انكمشت هذه الهيئة إلى بضعة أفراد من الأسرة الحاكمة ظلت تمارس جور الحاشية وتعايش إكراهات ومؤآمرات القصور قبل أن يتحول دوره في العصر العباسي إلى وظيفة بروتوكولية شكلية لا تمت إلى جوهر السلطة بصلة. "
38 " من بين هذه الفرق العشرين التي تشاجرت حول المشكل الناجم عن موت الحسن العسكري دون ولد ظاهر، ظهرت فرقة تقول: إن ثمة ولدا للحسن. فأين هو؟ هو غائب. فمن أين الجزم بوجوده؟ من عدم جواز خلافه، إذ لا يجوز خلو الأرض من إمام، ولا يجوز توريث الإمامة لغيره، ومن ثم لا يجوز أن يموت الإمام قبل أن ينجب الولد. (لاحقا ستظهر روايات تقوم بدور الأدلة النقلية. وهي خاصية مشتركة بين جميع المذاهب الإسلامية مهما بلغت غرابة طرحها، حيث لا شيء أسهل من التنصيص). ولماذا يغيب؟ تقيةً بسبب الخوف عليه من السلطة. (ولكن ظروفه الأمنية لم تكن أسوأ من ظروف أسلافه، بل على العكس شهدت هذه المرحلة تحولا إيجابيا في موقف الخلفاء العباسيين الضعفاء أصلا والخاضعين لسيطرة كاملة من الأتراك ثم البويهيين الشيعة)؟ إذن فالعلة مجهولة، ولكننا ندرك وجودها من عصمة الإمام بالضرورة. وهل سيرجع الإمام الغائب؟ حتما يرجع لأنه هو القائم المهدي المنتظر. من أين الحتم برجوعه؟ لأنه خاتم الأئمة فهو الثاني عشر. ولماذا يكون الأئمة (الذين يُفترض فيهم حكم العالم بطول الزمن) إثنى عشر إماما فقط؟ لأنه هكذا وردت النصوص (وهنا ترتد المسألة إلى دائرة النقل المحصورة بين الحديث والكلام). "
39 " هنا، لا يجوز تجاهل التوجه الاعتزالي لزيد بن عليّ عند تفسير اتجاه الزيدية إلى فكر المقاومة والثورة باعتباره ضربا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من ناحية، وعند تفسير اعتدالها النسبي حيال النسق العام (السني) باعتبار أن المسافة بين هذا النسق والاعتزال أقرب من المسافة بينه وبين التشيع الإمامي الذي استحدث مفهوما (طارئا) على البنية الأساسية للتدين الإسلامي، ممثلا في إضافة منصب جديد يجاور منصب النبي، هو منصب الإمام، الذي سيظل يمارس صلاحيات النبوة إلى آخر الزمان. "
40 " وما ينطبق على التجربة الفارسية العريقة في الأوتقراطية وفي احتضانها التوظيفي للدين، ينطبق على التجربة الإسلامية الحديثة حينذاك، باستثناء بعض الفروق التي ترجع إلى الخصوصيات التاريخية. كانت الدولة (الإسلامية) قد أسفرت عن توجهها الأوتقراطي منذ الحكومة الأموية الأولى(40هـ.). ولدى انتقال الحكم إلى الدولة العباسية (132 هـ.) كان الاستبداد المطلق قد أصبح حقيقة راسخة داخل النظام السياسي الإسلامي ويعني ذلك أن الدولة الإسلاميةلم تستورد من التراث الفارسي فكرة الاستبداد، وإنما استوردت منه فن ممارسة الاستبداد، والأدوات (التقنية)اللازمة لتسويقه على المستوى السياسي العملي، ولتبريره على المستوى الثقافي النظري. كان الدور الأساسي في تقنين نظرية السلطة محجوزا على الدوام للفقه، وهو المؤسسة الإسلامية الأقل قابلية للإختراق من قبل الثقافات الخارجية، وقد كفلت بإنجاز مهمتها التقنينية التي شرعنت الاستبداد، باستخدام أدواتها المنهجية الداخلية الخاصة، وعلى رأسها التنصيص السياسي. ومع ذلك وخلافا لمنهجها الإنغلاقي المحسس، سمحت مؤسسة الفقه للموروث السياسي الفارسي بالمرور عبر بوابة الكتابة السياسية التي عرفت بالآداب السلطانية. "