Home > Work > مفهوم الدولة

مفهوم الدولة QUOTES

2 " وما القول في التعريف المتداول بين المؤلفين المسلمين منذ القرن الماضي: الإسلام دين ودولة. هذا اعتراض يبدو قويا، لكن إذا وضعناه في نطاق التحليلات السابقة يظهر بوضوح أنه لا يعبر بالدقة المطلوبة عن حقيقة الموقف الإسلامي من السياسة والدولة.
نشأت هذه العبارة في صفوف سلفية القرن الماضي ردا على الدعوة المتأثرة بالغرب والرامية إلى تحرير الدولة القائمة من التزاماتها نحو الدين. كانت السلطنة في الواقع مستقلة عن مقاصد الشريعة، لكنها كانت مضطرة لكسب موافقة الفقهاء على المحافظة على الظواهر، أي على القواعد الفقهية. فجاءت الدعوة الليبرالية لتسير في نفس الخط الذي ذهب فيه الحكم السلطاني ولتطالب بقطع كل صلة مع الشرع. فرأى فيها الفقهاء دعوة إلى تحرير السلطان من كل قيد واعتبروا من واجبهم التذكير بالشروط الشرعية التي تحد نسبيا من السلطة المطلقة، وكان ذلك التذكير في ظروف القرن الماضي من مصلحة الشعوب الإسلامية. (هناك بالطبع ظاهرة سلبية: لقد استعمل الدين في معارضة إصلاحات ضرورية.) "

عبد الله العروي , مفهوم الدولة

4 " يقول المستشرقون إن الإسلام ثيوقراطي، هل لقولهم معنى؟ إذا رجعنا إلى المضمون اللغوي لكلمة ثيوقراطي، فالقول صحيح لأن الحكم في الإسلام فعلا بيد الله. غير أن المستشرقين يعنون بالإسلام الدولة القائمة ويقولون إن تلك الدولة كانت في غضون التاريخ ثيوقراطية. وهذا واضح البطلان لأن السلطنة تعني من البداية حكم السلطان وحده حسب نزوات إرادته. قد تكون ثيوقراطية بمعنى أنها استعملت الشريعة لتثبيت حكمها وهذا واقع، كما يعترف به جميع الفقهاء والمؤرخين، لكن لا يجب أن تلصق هذه الصفة بالإسلام كعقيدة. إن الدولة التي يكون فيها الحاكم خليفة الله في أرضه دولة آسيوية. دولة داريوش والإسكندر ونيرون، لا دولة محمد، لأن الدعوة الإسلامية (أي مقاصد الشريعة) غريبة فيها ومهجورة، ولا نجد بين المؤلفين المسلمين من يقول عكس هذا. يجوز للمستشرقين أن يقولوا إن الإسلام كعقيدة لم يغير شيئا في الدولة الآسيوية الثيوقراطية، لكن لا يجوز أن يقولوا إن الدولة كانت ثيوقراطية بسبب الإسلام، مع المعنى الدقيق الذي يعطونه لكلمة ثيوقراطية. كما يمكن لهم أن يقولوا أن الإسلام يهدف إلى أن تكون الكلمة العليا، في الدولة والمجتمع، لله. لكن عليهم أن يوضحوا أن هذا الحلم لم يتحقق في أغلب فترات التاريخ الإسلامي. فلا يجوز أن يوهموا القاريء أن الدولة الواقعية كانت فعلا خاضعة لحكم الله لأنها كانت في الحقيقة كل شيء سوى ذلك. نلاحظ هنا، كما في سائر المجالات المتعلقة بالإسلام، خلطا بين النظرية والتطبيق. "

عبد الله العروي , مفهوم الدولة

7 " كانت الدول الأوروبية مسيحية تعادي الإسلام، استغلالية تتوخى امتلاك الأرض واحتكار التجارة والصناعة، توسعية تريد الاستقلال بالسيادة. كانت في آن صليبية، استعمارية، إمبريالية. فعارضت أهدافها مصالح الفقهاء أنصار الشريعة، ومصالح النخبة الحاكمة، ومصالح الجماعات الشعبية من تجار وصناع وملاكين عقاريين. لا يجب أن نتخيل أن الناس آنذاك كانوا ساهين عن الأهداف البعيدة والملابسات المتشابكة. إن مسلمي المشرق والمغرب، وإن لم يعرفوا بالضبط قوانين المجتمع الغربي الحديث، كانوا بمقتضى تجاربهم الطويلة المريرة في الأندلس وفلسطين والبلقان، يدركون أن الخطر الأوروبي يستهدف الدين والدولة والمجتمع. كان إذن اتفاق ضمني بين السلطان والرعية، يجميع مكوناتها، ضد الأجنبي، لكنه اتفاق مؤقت لا يمحى تماما تناقض المصالح، وهذا ما سيتضح مع مرور الأعوام وتوسّع رقعة الصراع بين الشرق العربي الإسلامي والغرب الأوروبي. "

عبد الله العروي , مفهوم الدولة

8 " منذ قرون والدولة، في البلاد العربية الإسلامية، سلطانية، تخدم السلطان – ظل الله على الأرض. الجيش؟ هو يد السلطان، يحارب في الداخل أكثر مما يواجه الخارج. الضرائب؟ هي غرامة تقدر بما يحتاج إليه الأمير بما تستطيع أن تحمله الرعية، فتؤخذ غصبا من التاجر والفلاح والصانع وحتى من الموظف إذا غضب عليه وليُّ نعمته. الإدارة؟ هي في الغالب أمانة، يعني أنها تطلق على أفراد يؤتَمَنون على مال السلطان من نقود وعروض وماشية وعقار. ما عدا هذا فهو تحت تصرف الجماعات – القبيلة، الحِرفة، الزاوية، العلماء، الشرفاء... – لا يوجد ارتباط بين دولة السلطان وبين المصالح الجماعية. ليست التوظيفات تعويضات على خدمات، إنما هي رمز الانقياد والطاعة. منطق السياسة شيء، ومنطق المصلحة الإقتصادية والاجتماعية شيء آخر.(هذه نظرة أدلوجية للوضع القائم، النظرة التي كان يودّ السلطان أن تستوعبها الرعية وترى بها الأمور.) تعني الدولة بالظبط ما يدل عليه القاموس: القهر والتصرف الحر في بيت المال. (يقول الكواكبي: المستبد يتحكم في شئون الناس بإرادتهم ويحاكمهم بهواه لا بشريعتهم. ويعلم من نفسه أنه الغاصب المتعدّي فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من الناس يسدّها عن المنطق بالحق والتداعي بمطالبته.) "

عبد الله العروي , مفهوم الدولة

9 " يضع ابن خلدون، كما تمليه عليه عقيدته، مقاصد الشريعة فوق أهداف الدولة. فتبقى هذه، في نطاقها الطبيعي، بدون مبرر أخلاقي. يعرّف الفرد العضو في الدولة بكونه لا يتحكم في نفسه، والفرد الحر بكونه من يملك وازعا في ذاته. يصف المدينة الفاضلة بأنها التي لا يحتاج أفرادها إلى إدارة، ويحدد الخلافة الصحيح بأنها النظام الذي يتميز بأن الوازع فيه ديني. هذه أحكام تدل كلها على أن ابن خلدون ينزع كليا مفهوم الأخلاق من مجال الدولة ليضعه في وجدان الفرد المؤيد بالتوفيق الإلهي. لذا، لا يفكر ابن خلدون في إصلاح الدولة، أي جعلها أخلاقية. هذا مشروع عقيم في نظره، لا سبيل إلى تحقيقه بالوسائل الطبيعية.كل دولة لها عمر طبيعي كما لكل رجل عمر محدود: يمكن معالجة خلل طاريء، يمكن تأخير ساعة الإنهيار، لكن لا سبيل لاستدامة دولة معينة باللجوء إلى النواميس المعتادة. يحكي لنا التاريخ، ويثبت لنا الفقه، أن دولة أخلاقية وُجدت بالفعل، لكن كان ذلك في زمن الوحي، عندما (غسل جبريل قلب النبي) وأثّر النبي فيمن حوله حتى (كانوا يفضلون الدين على أمور دنياهم وإن أفضت غلى هلاكهم وحدهم دون الكافة.) حينذاك لم تعد دولة طبيعية، حيث أنها تسامت عن العادات الحيوانية. فييحق لنا أن نسميها دولة اللادولة.
أما ماكيافيلي المعجب بتاريخ روما، والذي كان يرى في انتشار الدعوة المسيحية سبب انحلالها وانهيارها، فإنه يفتقد غاية عليا يضعها فوق الدولة. ليس غريبا إذن أن يضع من قانون الدولة، من استمرارها وتوسعها وتفوّقها على سواها، هدف كل المشاريع البشرية. تعني الأخلاق، في هذا المنظور، قواعد سلوكية ومعتقدات مستوحاة من قانون الدولة. فتتوحد القيمة مع التاريخ والأخلاق مع الدولة. "

عبد الله العروي , مفهوم الدولة

10 " إذا كان العرب قد مروا من ملك طبيعي إلى خلافة إسلامية ومنها إلى ملك سلطاني. فليس غريبا أن يحافظ الفقيه على فكرة الخلافة مع اعترافه أنها انقلبت إلى ملك، وأن يدوّن المؤرخ أيام قبائل العرب حيث تتكشف له آثارها في سلوك أمراء بني أمية وبني العباس من خلال الطلاء الإسلامي، وأن يستخلص الفيلسوف من هذا التناقض التطلع إلى الخلافة والخنوع تحت الحكم السلطاني، إن سبيل النجاة هو اعتزال المجتمع والانكماش على الذات بهدف تزكية النفس وتنمية المواهب.

إن الطوبى السياسية في الإسلام – تلك التي يسميها الفقيه خلافة، والفيلسوف مدينة فاضلة – هي ظل السلطنة القائمة. وذلك بمعنيين مختلفيين. هي أولا نتيجة عكسية، صورة مقلوبة للوضع القائم في القلوب والأذهان المتضايقة منه. وهي ثانيا وسيلة لتقويته وتكريسه، فتنقلب بالضرورة الطوبى إلى أدلوجة. يعيش المرء تحت سلطان ويتخيّل نظاما لا يحتاج إلى سلطان: (الوازع فيه ذاتي لا خارجي حسب التعبير الخلدوني.) فيقول له الفقيه: ذلك هو الخلافة. ويقول له الفيلسوف: هي المدينة الفاضلة. ويقول له الصوفي: تلك هي طريقة الإخوان. لكن إذا سأل: متى وكيف؟ يُردُّ الأول: عندما يشاء الله ويغير طبيعة البشر، ويرد الثاني: الخطاب موجه للفرد العاقل الحكيم وحده، ويرد الثالث: بعد أن يتربى المريد وينسلخ عن طبيعته الحيوانية. وهي كلها أجوبة لا تضُرُّ السطان في شيء بل تخدمه وتقوّي مركزه، خاصة غذا كان مشبعا بالحكمة يفضل الشهرة والصيت على اللذة الشهوانية. "

عبد الله العروي , مفهوم الدولة

11 " إذا سمينا المثل الأعلى خلافة، فيجب ألا نطلق الكلمة على الأنظمة التي جاءت بعد الخلفاء الراشدين. وإذا سمينا النظام القائم خلافة، مع أننا نعني خلافة صورية، فيجب أن نطلق على المثل الأعلى اسما آخر. وإلا تاه بنا الحديث وتعذر التفاهم، كما وقع بالفعل أثناء الضجة التي أحدثها كتاب علي عبد الرازق.

إن الخلافة هي طوبى الفكر السياسي الإسلامي. لهذا السبب بالذات، أي لأنها مثل أعلى وتخيُّل، لا يجوز أن نقول إنها الدولة الإسلامية، إن هذه العبارة متناقضة في ذاتها إذا أخرجناها من عالم المعقولات إلى عالم المحسوسات: تشير الدولة إلى مستوى ويشير الإسلام إلى مستوى آخر. (إن السلطنة العادلة هي ما يطالب به رشيد رضا في كتابه الخلافة والإمامة العظمى، والسلطنة الجائرة هي ما يعني علي عبد الرازق عندما ينقد الخلافة في كتابه المذكور آنفا. أما علاّل الفاسي فإنه لا يرضى بهذه ولا بتلك، بل يعيد إلى الذكرى طوبى الخلافة الحق.) تستقيم العبارة (دولة-إسلامية) في ظروف غير طبيعية حيث يصبح الإنسان غير الإنسان وحيث تتغير القواعد العامة للسلوك البشري، فتتحول الدولة إلى لا دولة ويذوب هدفها المحدود في الغاية العظمى للامة جمعاء. أما في الظروف العادية، فتبقى الدولة في نطاق الحيوانية، غايتها الغلبة والقهر والاستئثار بالخيرات، فلا يمكن أن تتحول تلقائيا إلى أداة تتوخّى تحقيق مكارم الأخلاق. "

عبد الله العروي , مفهوم الدولة

12 " إننا كما لاحظ القاريء نخصص كلمة خلافة للتعبير عن المثل الأعلى، عن الحكم الذي يكون فيه الوازع دينيا، وواجهنا بالطبع صعوبة كبرى في اختيار عبارة للإشارة إلى الحكم الذي يكون فيه الوازع عصبية والذي يهم وحده المؤرخ والسياسي الواقعي. إن عبارة دولة إسلامية مرفوضة، ما دامت الدولة الإسلامية في الحقيقة في الخلافة؛ عبارة دولة شرعية أصح، لكن تتسبب في التباس كبير لأن القاريء العادي لا يفرّق بين الدولة الشرعية والخلافة. إذا قلنا دولة الإسلام أو دولة المسلمين، فالقول مقبول ما منا لا نعني به نظاما إسلاميا، بل فقط نظاما تقام فيه شعائر الإسلام ويعيش فيه مسلمون مؤمنون. لكن الالتباس لا يرتفع. تبقى عبارة دولة سلطانية وهي التي اخترناها لأنها الأقرب إلى الواقع والأقل التباسا. صحيح، إن المؤلفين الغربيين، وماكس فيبر بخاصة، يستعملونها بكيفية خاطئة. يطلقونها على الملك المطلق المتميز بالجور والعدوان ويظنون أن الإسلام، كعقيدة وكمجتمع، لا يعرف، بل لا يتصور، سواه. وهم خاطئون من وجهين. أولا، لا يزكي الفقهاء إلا السلطنة العادلة الشرعية، أما الجائرة فإنهم يحبذون العمل على زوالها؛ ثانيا، يتعايشون مع السلطة العادلة، لكنهم يحنون إلى النظام الأمثل، إلى الخلافة. رغم أنهم لا يتكلمون عليها كثيرا لأن قيامها مرهون بالمشيئة الربانية وحدها. إن استعمال المستشرقين، مع ما فيه من نوايا سيئة، يشكل عقبة في وجه ذيوع العبارة المقترحة. لكن في غياب مصطلح أدق، الأقرب إلى الواقع هو أن نسمي النظام السياسي الذي عاش تحت ظله المسلمون في جل تاريخهم بدولة السلطنة. "

عبد الله العروي , مفهوم الدولة

13 " إن العبارة – الإسلام دين ودولة – وصف للواقع القائم منذ قرون، أي لحكم سلطاني مطلق يحافظ، لأسباب سياسية محضة، على قواعد الشرع؛ وليست بأي حال تعبيرا عن طوبى الخلافة كما حللناها في الصفحات السابقة. ما يجب أن يلفت نظر القاريء في العبارة المذكورة هو واو الربط الدال على التساكن لا الاندماج والانصهار، مع أن منطق الخلافة الحق يقضي أن الدين لا يتساكن مع الدولة بل يصهرها ليحيلها إلى لا دولة. تعني كلمة إسلام في العبارة المذكورة الحضارة التي تطورت أثناء التاريخ في دار الإسلام ولا تعني أبدا العقيدة.(يتفق في هذه النقطة السلفيون مع المستشرقين، وبدون شك تحت تأثيرهم.) لتلك الحضارة مميزات من ضمنها تساكن الدين والدولة دون أن يغير في العمق أحدهما الآخر. نلاحظ بالفعل من جهة ان الدولة لم تحوّل الإسلام لتجعل منه دين دولة؛(كما نجد ذلك في الإمبراطوريات القديمة وفي الدولة الفاشية.) لو تحقق هذا لكانت الدولة صنما يُعبد، لكان في ذلك شرك بالله وهو ما يحرمه الشرع تحريما قطعيا، ومن جهة ثانية أن الإسلام لم يحوّل الدولة إلى مؤسسة دينية، لأن الدولة في الظروق العادية تعني دائما المُلك الطبيعي؛ لو حصل المذكور وأصبحت الدولة أداة تمكن كل فرد من التحلي بمكارم الأخلاق لما نشأت الحركة الصوفية التي تدعو كل فرد إلى النجاة بنفسه غير عابيء بغيره. "

عبد الله العروي , مفهوم الدولة

14 " نواجه هنا مفارقة عجيبة؛ إذ يقول السلفيون: الإسلام دين ودولة يظنون أنهم يعبرون عن خصوصية الإسلام. في الواقع إنهم يصفون الإمارة الشرعية ولا يتعرضون في شيء للخلافة. إنهم يتكلمون عما يجمع النظام الإسلامي بالأنظمة السياسية الأخرى. ألا يحق لنا أن نقول أن النصرانية دين ودولة؟ أوليست دينا يعيش بجانب دولة في نطاق مؤسسة مستقلة؟ في هذا السؤال بالطبع مغالطة، لكنها مغالطة يرتكبها المستشرقون والسلفيون باستمرار. عندما يقولون: النصرانية دين، فإنهم يعنون المعتقد وعندما يقولون: الإسلام دين ودولة فإنهم يعنون الحضارة الإسلامية. لو عنَوْا بالنصرانية حضارة محددة لوجب عليهم الاعتراف بأنها دين ودولة، كنيسة وإدارة، بابوية وامبراطورية. ولو عنَوْا بالإسلام المعتقد لوجب عليهم القول إنه دين فوق الدولة وما سواها.
إن العبارة التي نحن بصددها تبررها ظروف القرن الماضي، ظروف مواجهة الفقهاء الليبرالية الغربية. لكنها لا تعبر عن روح الدعوة الإسلامية. التعبير الصحيح، حسب مصطلحاتنا، هو أن نقول: الدولة السلطانية دين ودولة. أما الإسلام فإنه دين الفطرة الذي يهدف إلى تحويل الدولة إلى لا دولة. "

عبد الله العروي , مفهوم الدولة

18 " يعتبر ابن خلدون أن الفترة الفاصلة بين عهد معاوية وعهد هارون الرشيد التبست فيها الخلافة بالملك، ويقول: "قد رأيت كيف صار الأمر إلى المُلك وبقيت معاني الخلافة من تحري الدين ومذاهبه والجري على منهاج الحق ولم يظهر التغيير إلا في الوازع الذي كان دينا ثم انقلب عصبية وسيفا." في هذه الحالة، ليس غريبا أن تتداخل الشواهد الفقهية الشرعية مع البراهين العقلية المأخوذة عن الحكماء الأقدمين. كان هؤلاء يقولون أن العدل يصلح أحوال الرعية، كذلك يحث أصحاب الآداب السلطانية الخليفة – الملك على التشبث بالشريعة إذ بها يدوم ويستقر الملك. الدولة في نظر هؤلاء الأدباء المؤرخين ملكية، يملكها شخص واحد، وإن كان في الواقع يمثل نصابا، أي قبيلة أو جماعة. العلاقة السياسية، في العمق، هي أن تحكم أقلية أكثرية، كما يقول اين خلدون:"ذلك أنه ليس كل أحد مالك أمر نفسه والرؤساء والأمراء المالكون لأمر الناس قليل بالنسبة إلى غيرهم. فمن الغالب أن إذ يكون الإنسان في ملكة غيره." حقيقة السياسة إذن هي امتلاك أمر الآخرين، والطبيعة الحيوانية في الإنسان تدفع الحاكم إلى قهر واستغلال المحكوم. لكن هنا يتدخل العقل، فيبين أنه لا بد للحاكم الملك أن يختار طريقين: له أن يستغلّ تفوقه إلى أقصى حد ممكن، لكنه يخاطر بحكمه في تلك الحال إذ يدفع الأغلبية المقهورة إلى أن تبحث عن أية وسيلة تحررها من ربقة القهر والاستعباد؛ وله أيضا أن يختار استمرار ملكه لأطول مدة ممكنة، حينذاك عليه أن يقتصد في التصرّف. أن يُظهر الرحمة والشفقة، أن يقلل من الاستغلال، بكلمه واحدة، عليه أن يعدل. بما أن الحكم إضافي، أي بما أنه علاقة بين حاكم ومحكوم، وكلاهما إنسان عاقل، فلا يمكن أن يضمن للملك لفترة طويلة معا السلطة المطلقة ودوام الملك، فإما بطش شديد قصير وإما ملك طويل لين. عوضَ أن يكون العدل مناقضا للملك، فإنه من شروط استقراره ودوامه. "

عبد الله العروي , مفهوم الدولة