Home > Author > عبد الله العروي >

" يضع ابن خلدون، كما تمليه عليه عقيدته، مقاصد الشريعة فوق أهداف الدولة. فتبقى هذه، في نطاقها الطبيعي، بدون مبرر أخلاقي. يعرّف الفرد العضو في الدولة بكونه لا يتحكم في نفسه، والفرد الحر بكونه من يملك وازعا في ذاته. يصف المدينة الفاضلة بأنها التي لا يحتاج أفرادها إلى إدارة، ويحدد الخلافة الصحيح بأنها النظام الذي يتميز بأن الوازع فيه ديني. هذه أحكام تدل كلها على أن ابن خلدون ينزع كليا مفهوم الأخلاق من مجال الدولة ليضعه في وجدان الفرد المؤيد بالتوفيق الإلهي. لذا، لا يفكر ابن خلدون في إصلاح الدولة، أي جعلها أخلاقية. هذا مشروع عقيم في نظره، لا سبيل إلى تحقيقه بالوسائل الطبيعية.كل دولة لها عمر طبيعي كما لكل رجل عمر محدود: يمكن معالجة خلل طاريء، يمكن تأخير ساعة الإنهيار، لكن لا سبيل لاستدامة دولة معينة باللجوء إلى النواميس المعتادة. يحكي لنا التاريخ، ويثبت لنا الفقه، أن دولة أخلاقية وُجدت بالفعل، لكن كان ذلك في زمن الوحي، عندما (غسل جبريل قلب النبي) وأثّر النبي فيمن حوله حتى (كانوا يفضلون الدين على أمور دنياهم وإن أفضت غلى هلاكهم وحدهم دون الكافة.) حينذاك لم تعد دولة طبيعية، حيث أنها تسامت عن العادات الحيوانية. فييحق لنا أن نسميها دولة اللادولة.
أما ماكيافيلي المعجب بتاريخ روما، والذي كان يرى في انتشار الدعوة المسيحية سبب انحلالها وانهيارها، فإنه يفتقد غاية عليا يضعها فوق الدولة. ليس غريبا إذن أن يضع من قانون الدولة، من استمرارها وتوسعها وتفوّقها على سواها، هدف كل المشاريع البشرية. تعني الأخلاق، في هذا المنظور، قواعد سلوكية ومعتقدات مستوحاة من قانون الدولة. فتتوحد القيمة مع التاريخ والأخلاق مع الدولة. "

عبد الله العروي , مفهوم الدولة


Image for Quotes

عبد الله العروي quote : يضع ابن خلدون، كما تمليه عليه عقيدته، مقاصد الشريعة فوق أهداف الدولة. فتبقى هذه، في نطاقها الطبيعي، بدون مبرر أخلاقي. يعرّف الفرد العضو في الدولة بكونه لا يتحكم في نفسه، والفرد الحر بكونه من يملك وازعا في ذاته. يصف المدينة الفاضلة بأنها التي لا يحتاج أفرادها إلى إدارة، ويحدد الخلافة الصحيح بأنها النظام الذي يتميز بأن الوازع فيه ديني. هذه أحكام تدل كلها على أن ابن خلدون ينزع كليا مفهوم الأخلاق من مجال الدولة ليضعه في وجدان الفرد المؤيد بالتوفيق الإلهي. لذا، لا يفكر ابن خلدون في إصلاح الدولة، أي جعلها أخلاقية. هذا مشروع عقيم في نظره، لا سبيل إلى تحقيقه بالوسائل الطبيعية.كل دولة لها عمر طبيعي كما لكل رجل عمر محدود: يمكن معالجة خلل طاريء، يمكن تأخير ساعة الإنهيار، لكن لا سبيل لاستدامة دولة معينة باللجوء إلى النواميس المعتادة. يحكي لنا التاريخ، ويثبت لنا الفقه، أن دولة أخلاقية وُجدت بالفعل، لكن كان ذلك في زمن الوحي، عندما (غسل جبريل قلب النبي) وأثّر النبي فيمن حوله حتى (كانوا يفضلون الدين على أمور دنياهم وإن أفضت غلى هلاكهم وحدهم دون الكافة.) حينذاك لم تعد دولة طبيعية، حيث أنها تسامت عن العادات الحيوانية. فييحق لنا أن نسميها دولة اللادولة. <br />أما ماكيافيلي المعجب بتاريخ روما، والذي كان يرى في انتشار الدعوة المسيحية سبب انحلالها وانهيارها، فإنه يفتقد غاية عليا يضعها فوق الدولة. ليس غريبا إذن أن يضع من قانون الدولة، من استمرارها وتوسعها وتفوّقها على سواها، هدف كل المشاريع البشرية. تعني الأخلاق، في هذا المنظور، قواعد سلوكية ومعتقدات مستوحاة من قانون الدولة. فتتوحد القيمة مع التاريخ والأخلاق مع الدولة.