Home > Work > مفهوم الدولة
21 " ليست الشريعة هي ما يفصل المُلك عن الخلافة بل تحقيق مقصدها: بوجوده تقوم الخلافة وبانعدامه تنحلّ إلى مُلك، مع ورغم إقامة حدود الشرع. تحت ظل المُلك تخدم الشريعة أهداف الدولة وتحت ظل الخلافة تخدم الدولة أهداف الشريعة. لا يكفي أن نقول: هدف الشرع هو المصلحة، حتى لو فهمنا منها مصلحة العموم، أي زيادة الخيرات وتقدّم العلوم واستدامة السلم والأمن. يقول ابن رشد، الفقيه المالكي: إن الشرع أعلى من الناموس العقلي، ويصرّح ابن خلدون: "وما كان منه بمقتضى السياسة وأحكامها فمذموم أيضا لأنه نظر بغير نور الله... لأن الشارع أعلم بمصالح الكافة فيما هو مغيب عنهم من أمور آخرتهم". يعني هذا الكلام وهو كلام الفقهاء جميعا أن الدولة السلطانية التي تطبق الشرع حرفيا ليست خلافة لأنها تهدف من وراء ذلك التطبيق إلى الراحة والاستقرار، أي إلى غاية دنيوية. أما الخلافة فهي الحكم الذي يهدف من وراء المصلحة الدنيوية المحققة إلى مقصد الشريعة. إلى ما يسميه الفقهاء وغيرهم مكارم الأخلاق، كما عبر عنه الرسول في حديث شريف. لا يكون الحكم خلافة إلا إذا نظر إلى ذاته كأداة في خدمة هدف أعلى، لا تكون الدولة خلافة إلا إذا جاوزت أهدافها الذاتية. عندئذ قد يكون الجهاد علامة على ذلك التجاوز وقد لا يكون. إذا كان الهدف منه هو التوسع فهو داخل في سياسة الدولة لا أكثر ولا أقل، وهذا بالفعل ما حصل أيام الأمويين والفاطميين وغيرهم؛ إذا كان الهدف منه هو إعلاء كلمة الله فقد يدل على إحياء الخلافة، بشرط أن تكون كلمة الله هي العليا في الداخل قبل التوجه إلى الخارج. فالخلافة هي التي تجعل من الغزو جهادا، لا العكس. "
― عبد الله العروي , مفهوم الدولة
22 " إن البيروقراطية وسيلة فقط: قد تستعمل في صالح الحرية وقد تستعمل لصالح القمع العنيف، حسب الظروف العامة، حسب حجم ونظام وأخلاقية البيروقراطية ذاتها. إن الدولة العربية الحالية متأرجحة بين نمطين: السلطانية المملوكية والتنظيمية العقلية، بل تبدي في الواقع ملامح النمطين معا. يكمن سبب التأرجح في الفجورة بين السياسة والمجتمع المدني، بين السلطة والنفوذ المادي والأدبي – نعني النفوذ، خارج مراكز السلطة، إما بالمال وإما بالثقافة، وإما بالشرف الموروث -، بين الدولة والفرد، تلك الفجوة الموروثة عن السلطانية القديمة والتي ركزتها الإدارة الاستعمارية الأجنبية. "
23 " كلما انحاز الفرد إلى ذاته وابتعد عن الكيان الساسي، نشأت طوبى، أي تخيل كيان أفضل تتوحد فيه أهداف الجماعة وأهداف الفرد. كانت الخلافة طوبى في العهدين الأموي والعباسي الأول، وكانت الإمامة الشرعية طوبى في العهود التالية. فما هي يا ترى طوبى العهد الحالي؟ "
24 " إذا كانت الدولة الحديثة لا تنشأ وتتقوى إلا بإقامة بيروقراطية عصرية تجسّد العقلانية الإجتماعية، كذلك لا ينضج الفكر السياسي في أي مجتمع كان إلا بعد أن يتمثل بجد المفاهيم الثلاثة – الحرية، الدولة، العقلانية – في آن واحد. إن الفكر العربي المعاصر يجعل التأمل في الحرية من شأن الفلسفة الماورائية الأخلاقية، والتأمل في العقل من شأن فلسفة العلوم، والتأمل في الدولة من شأن الأدلوجة السياسية، يتولد هذا التخصص من واقع اجتماعي تتساكن فيه الدولة والفرد كعنصرين متقابلين متعارضين؛ وفي نفس الوقت يتسبب في الانعزال عن الواقع واليأس من إدراكه. "
25 " لا تنحصر الدولة، حسب النظرية، في الجهاز. الدولة، يعني المجتمع السياسي، مبنية على أدلوجة وعلى جهاز، تجسّد الأدلوجة مفهومي الشرعية والإجماع؛ يتكون الجهاز من البيروقراطية المدنية (القلم) والعسكرية (السيف).أخلاقيات الدولة هي تحليل الأدلوجى، أي شروط تحقيق الشرعية والإجماع. اجتماعيات الدولة هي وصف عملية تكوّن البيروقراطية، أي دراسة حركة العقلنة.نظرية الدولة هي التحليل المزدوج لأخلاقيات واجتماعيات الدولة. هذا فيما يخص التحليل العام. "
26 " هناك عوامل تتسبب لا في ضعف أو قوة جهاز الدولة وحسب، بل أيضا في وجود أو انعدام أدلوجة – شرعية أهدافها وإجماع المواطنين حولها – تلك العوامل جغرافية، واجتماعية، واقتصادية، واستراتيجية... من الواضح أن الكلام على الذهنيات غير كاف. إن ضعف الدولة، يسبب انعدام الشرعية، وهو ضعف يواكبه بالضرورة تضاعف القمع، لا يفسّره فقط تخلف ذهنية القادة وسطحية التنظيمات. هذا واضح. "
27 " الطوبى، في استعمالنا المحدد للكلمة، هو تخيّل نظام أفضل خارج الدولة القائمة وضدا عليها. تكون إذن أدلوجة حرية وتحرير، وبالتالي أدلوجة دولة مستقبلية، لكن لا يمكن أن تكون أدلوجة دولة قائمة. بل حيثما وجدت فوجودها دليل ضمني على أن الدولة التي تحتضنها ضعيفة، ينقصها تبرير أدلوجي يستوعبه الأفراد ليجعلوا منه قانونهم الوجداني. لقد رأينا في الدولة السلطانية جهازا قمعيا صرفا يتساكن مع طوبى المدينة الفاضلة وطوبى الخلافة، دون أن يتوفر له أدلوجة تبريرية تخلق إجماعا وتكسبه ولاء الأفراد. كان المفروض في الفقهاء أن يمدوا السلطة القائمة بالتبريرات اللازمة، إلا أنهم كانوا مرتبطين بفكرة الخلافة. نعم، قالوا للناس: أطيعوا أولي الأمر منكم، لكن قالوا للناس من قبل: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول، ولم يبينوا أبدا سبيل التوفيق إذا تناقض الأمران، علما بأن التناقض هو القاعدة في حياة المؤمنين. لذا، لم تظهر أدلوجة، وبالأحرى لم تتبلور نظرية الدولة. "