Home > Work > النظرات
121 " فويلٌ للرجل الصادق من حياةٍ نَكِدةٍ لا يجد فيها حقيقةً مستقيمة! وويلٌ له من صديقٍ يخون العهد، ورفيقٍ يكذب الود، ومستشارٍ غير أمين، وجاهلٍ يفشي السر، وعالمٍ يُحَرِّفُ الكلم عن مواضعه، وشيخ يدعي الولاية كذبًا، وتاجرٍ يغش في سلعته، ويحنث في أيمانه، وصحفيٍّ يتَّجر بعقول الأحرار كما يتجر النخاس بالعبيد والإماء، ويكذب على نفسه وعلى الله وعلى الناس في كل صباحٍ ومساء! "
― مصطفى لطفي المنفلوطي , النظرات
122 " عرفتُ أنَّ الأمَّة المصرية أصبحت لا تدري ما تريد ولا ما يراد بها، ولا تجد مَنْ يَرُدُّ إليها رُشدَها ولا مَنْ يمدُّ يده إليها، ليأخذ بيدها في هذا الظلام الحالك والليل المُدْلَهِمِّ. "
123 " وكثيرًا ما تجد بين الجهلاء من تُعجبك استقامته، وبين العلماء من يدهشك اعوجاجه، "
124 " ولقد كتب الكاتبون في تعريف الشعر وافتنُّوا في ذلك افتنانًا بَعُد به عن مكانه، وعندي أنَّ أفضل تعريف له أنه «تصويرٌ ناطقٌ»؛ "
125 " أيُّ قيمةٍ لحياة امرئ لا عمل له فيها إلا معالجة نفسه، وتذليلها على الرضا بما يرضى به الناس، "
126 " لو علمت أنَّ مآرب هذه الدنيا وأغراضها لا تُنال إلا بترك شعيرةٍ من شعائر الدين أو العبث بفريضةٍ من فرائضه لَعِفْتُهَا واجْتَوَيتُهَا، ونفضت يدي منها، وقلت لها كما قال لها علي بن أبي طالب من قبل: «إليك عني، غُرِّي غيري، ما لي بك حاجة.» "
127 " أصحاب الصحف، وكتاب الرسائل، والمؤلفون، وخطباء المجامع، وخطباء المنابر، كلهم يدعون إلى الحق، وكلهم يعظون وينصحون، ويأمرون بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عن المنكر، ولكن لا يوجد بينهم من يستطيع أن يحمل في سبيل الدعوة ضرًّا، أو يلاقي في طريقها شرًّا. "
128 " يسألني كثيرٌ من الناس — كَشَأْنهم في سؤال الكُتَّاب والشعراء — كيف أكتب رسائلي؟ كأنما يريدون أن يعرفوا الطريق التي أسلكها إليها فيسلكوها معي، وخيرٌ لهم ألَّا يفعلوا، فإني لا أحبُّ لهم ولا لأحدٍ من الشادِينَ في الأدب أن يكونوا مُقيَّدين في الكتابة بطريقتي، أو طريقة أحدٍ من الكُتَّاب غيري. وليعلموا — إن كانوا يعتقدون لي شيئًا من الفضل في هذا الأمر — أني ما استطعت أن أكتب لهم تلك الرسائل "
129 " امرئ القيس في الطلب بثأر أبيه، وبكاء جليلة أخت جساس على زوجها وأخيها، وبكاء عدي بن زيد على نفسه في سجن النعمان، وبكاء متمم بن نويرة على أخيه مالك حتى دمعت عينه العوراء، وبكاء ليلى بنت طريف على أخيها الوليد، وهيام أم حكيم زوج عبيد الله بن العباس في المواقف والمواسم تنشد طفليها الذبيحين، وبكاء الشريف على المناذِرَة في خرائب الحيرة، وبكاءُ أبي عبادة على الأكاسرة في خرائب المدائن، وبكاء الرضِيِّ على بني هاشم، وبكاءُ العَبلي على بني أمية، وبكاءُ الرقاشي على بني برمك، وذل أبي فراسٍ في أسره، والمُعْتَمِد بن عبَّاد في سجنه، وبكاءُ الوزير ابن زيدون على نفسه مرَّةً وعلى وَلَّادة أخرى، وبكاء ابن مناذر على عبد المجيد، والبحتري على المتوكل، وابن اللبانة على ابن عباد، والتيمي على يزيد بن مزيد، ومروان بن حفصة على معن بن زائدة، وجنون المجنون بليلاه، وجلوسه في جنبات الحي منفردًا عاريًا، مذهوب اللب، مشترَك العقل، "
130 " ليس الذي يبكي صديقًا كان يأنس بحديثه، أو عالمًا كان ينتفع بعلمه، أو كريمًا كان يستظل بظلال مروءته وكرمه، كمثل الذي يبكي شظية قد طارت من شظايا قلبه. "
131 " وبكاء الأعرابية التي مات منها ولدُها في دار غربةٍ فدفنته، ثم وقفت على قبره تودعه وتقول: «والله يا بني لقد غذوتك رضيعًا، وفقدتك سريعًا، وكأن لم يكن بين الحالين مدة ألتذ بعيشك فيها، فأصبحتَ بعد الغضارة والنضارة، ورونق الحياة والتنسم بطيب روائحها تحت أطباق الثرى، جسدًا هامدًا، ورفاتًا سحيقًا، وصعيدًا جرزًا، اللهم إنك قد وهبته لي قرة عين فلم تمتعني به كثيرًا، بل سلبتنيه وشيكًا، ثم أمرتني بالصبر، ووعدتني عليه الأجر، فصدَّقت وعدك، ورضيت قضاءك، فارحم اللهم غربته، وآنس وحشته، واستر عورته يوم تنكشف الهنات والسوآت. وا ثُكْلَ الوالدات! ما أمضَّ حرارةَ قلوبهن، وأقلقَ مضاجعهن، وأطولَ ليلهن، وأقلَّ أنسهن، وأشد وحشتهن، وأبعدهن من السرور، وأقربهن من الأحزان!» "
132 " لا سعادة في هذه الحياة إلا إذا نشر السلام أجنحته البيضاء على هذا المجتمع البشري، ولن ينتشر السلام إلا إذا هدأت أطماع النفوس، واستقرت فيها ملكة العدل والإنصاف، فعرف كل ذي حقٍّ حقه، وقنع كلٌّ بما في يده عما في يد غيره، فلا يحسد فقيرٌ غنيًّا، ولا جاهلٌ عالمًا. وأشعرت القلوب رحمةً وحنانًا على البؤساء والمنكوبين، فلا يهلك جائعٌ بين الطاعمين، ولا عارٍ بين الكاسين. وامتلأت النفوس عزةً وشرفًا، فلا يبقى شيءٌ من تلك الحبائل المنصوبة لاغتيال أموال الناس باسم الدين أو باسم الوطنية أو باسم الإنسانية أو باسم العلم، ولا نرى طبيبًا يدِّعي علم ما لم يعلم ليسلب المريضَ رُوحَه وماله، ولا محاميًا يخدع موكله عن قضيته ليسلب منه فوق ما يسلب منه خصمه، ولا تاجرًا يشتري بعشرة ويبيع بمائةٍ ثم ينكر بعد ذلك أنه لصٌّ سارق، ولا كاتبًا يضرب الناس بعضهم ببعضٍ حتى تسيل دماؤهم فيمتصها كما يضرب القادح الزَّند بالزند ليظفر بالشرر المتطاير منهما. وما دامت هذه المطالب أحلامًا كاذبةً وأمانيَّ باطلة فلا مطمع في سلامٍ ولا أمانٍ، ولا أمل في سعادةٍ ولا في هناء، ولا فرق بين أمس الدهر ويومه ولا بين يومه وغده، ولا فرق بين مغفلات أيامه ومعلمات أعياده، فليهنأ بالعيد من عرف من أيامه غير ما عرفت، وذاق من نعمائه غير ما ذقت، وليفرح بالعام الجديد من حمد ماضي أيامه، وسالف أعوامه. "
133 " أصحيحٌ ما يقولون عنكم أيها الفتيان التعسون أنكم تتخذون صلة العلم — التي هي أشرف الصلات وأكرمها — صلة فسادٍ بينكم وبين أولئك الفتيات الضعيفات، وأن الحبالة التي تنصبونها لهن لاصطيادهن إنما هي حبالة القلم الذي هو أفضل أداةٍ للخير، وأعظم وسيلةٍ للفضيلة، وخير واسطة للأدب والكمال؟ "
134 " أصحيحٌ أنكم فقدتم في تلك السبيل التي تسلكونها خلق الرجولة والشهامة، فأصبحتم تتجملون للنساء بأخلاق النساء، وتزدلفون إليهن بمثل صفاتهن وشمائلهن، وأصبح الرجل منكم لا هم له في حياته إلا أن يتجمل في ملبسه، ويتكسر في مشيته، ويرقق من صوته، ويلون ابتساماته ونظراته بألوان التضعضع والفتور، ويقضي الساعات الطوال أمام مرآته متعهدًا شعره بالترجيل، وبشرته بالتنضير، وثناياه بالصقل والجلاء، حتى صار ذلك عادة من عاداتكم التي لا تنفك عنكم، وحتى سرى التأنث من أجسامكم إلى نفوسكم، فلم يبقَ فيكم من صفات الرجولة وأخلاقها غير الأسماء والألقاب؟ "
135 " أين تجدون الزوجات الصالحات في مستقبل حياتكم إن أنتم أفسدتم الفتيات اليوم؟ وفي أي جو يعيش أولادكم ويستنشقون نسمات الحياة الطاهرة إن أنتم لوثتم الأجواء جميعها وملأتموها سمومًا وأكدارًا؟ "
136 " وبلاءها، وحُدَاءَها وغِناءَها، وأسواق شعرائها، وموقف خطبائها، وفقرَها وإقلالَها، وشحوبَ وجوهها، وسُمْرَة "
137 " وقال أبو العباس المبرد في بعض أحاديثه: «لا أحتاج إلى وصف نفسي، لعلم الناس بي أنه ليس أحدٌ من الخافقين تختلج في نفسه مشكلةٌ إلا لقيني بها، وأعدَّني لها، فأنا عالمٌ ومتعلم وحافظٌ ودارس، لا يخفى عليَّ مشتبهٌ من الشعر والنحو والكلام المنثور والخطب والرسائل، وربما احتجت إلى اعتذارٍ من فلتةٍ أو التماس حاجةٍ، فأجعل المعنى الذي أقصده نصب عينيَّ، ثم لا أجد سبيلًا إلى التعبير عنه بيدٍ ولا لسانٍ، ولقد بلغني أنَّ عبيد الله بنَ سليمان ذكرني بجميلٍ، فحاولت أنْ أكتب إليه رقعةً أشكره فيها وأعرض ببعض أموري، فاتبعت نفسي يومًا في ذلك فلم أقدر على ما أرتضيه منها، وكنت أحاول الإفصاح عمَّا في نفسي فينصرف لساني إلى غيره.» ا.ﻫ. "
138 " الالتزام. وإنك لا تكاد ترى اليوم من شعراء هذا العصر وكُتَّابِهِ — الذين يأخذون بزمام هذا المجتمع العربيِّ، ويُقيمون عالمه ويُقعدونه بقوتهم القلميَّة في شئونه السياسية والاجتماعية والأدبية كافةً — من يُعَدُّ من حفاظ اللغة العربية وثقاتها، أو من يسلم له مقالٌ من مأخذٍ لنحويٍّ أو مغمزٍ للُغويٍّ، وهم على ذلك عندي أدخل في باب البيان وألصق به وأمس به رحمًا من أولئك الذين يستظهرون متون اللغة ويحفظون دقائقها، ويحيطون بمترادفها ومتواردها، ويتباصرون بشاذها وغريبها، ويحملون في صدورهم ما دق وجل من مسائل نحوها وتصريفها، فإذا عرض لهم غرضٌ من الأغراض في أي شأن من شئون حياتهم، وأرادوا أنفسهم على الإفضاء به أُرتِج عليهم فأغلقوا، أو تقعروا وتشدقوا، فكأنهم لم ينطقوا. "
139 " كل غرض تزعمون أنكم تسعون إليه لإبلاغ هذه الأمة أمنيتها من السعادة والهناء، لا قيمة له بعدما أضعتم عليها غرضها من الاتحاد والائتلاف، بل لا سبيل لها إلى بلوغ غرضٍ من أغراضها إلا إذا كان الاتحاد قائدها إليه، ودليلها عليه. "
140 " من العجز أنْ يزدري المرء نفسه فلا يقيم لها وزنًا، وأنْ ينظر إلى من هو فوقه من الناس نظرَ الحيوان الأعجم إلى الحيوان الناطق. وعندي أنَّ مَن يخطئ في تقدير قيمته مستعليًا خيرٌ مِمَّن يخطئ في تقديرها متدليًا، فإنَّ الرجل إذا صَغُرَتْ نفسُه في عين نفسه يأبى لها مِنْ أحواله وأطواره إلا ما يشاكل منزلتها عنده، فتراه صغيرًا في علمه، صغيرًا في أدبه، صغيرًا في مروءته وهمته، صغيرًا في ميوله وأهوائه، صغيرًا في جميع شئونه وأعماله، فإن عَظُمَتْ نفسه عظم في جانبها كلُّ ما كان صغيرًا في جانب النفس الصغيرة. "