Home > Work > رحلتي الفكرية: في البذور والجذور والثمر

رحلتي الفكرية: في البذور والجذور والثمر QUOTES

90 " ‫و حين لاحظت تصاعد معدلات الاستهلاكية في المجتمعات الغربية كنت أظن في بداية الأمر أن الهدف من زيادة الاستهلاك هو زيادة الإنتاج ، و هي بالفعل كذلك . و لكن حينما تعمقت في الأمر قليلاً وجدت أنها تهدف أيضاً للترشيد في الإطار المادي و الضبط الإجتماعي و تنميط المجتمع . فتصعيد معدلات الاستهلاكية ، و جعل هذه المعدلات هي المقياس الذي يحدد الإنسان من خلاله مدى سعادته و مكانته الاجتماعية ، هو شكل من أشكال الترشيد الجواني . فالاستهلاكية (وصورة الإنسان الاستهلاكي التي تروج لها من خلال الإعلانات التليفزيونية و أفلام السينيما) تحدد للفرد كل شئ و لا تتركه يحلم أحلاماً خاصة ، و لا أن يسلك سلوكاً خاصاً.

و الموضة (أي الأزياء) التي أصبحت واحدة من أهم الصناعات و أضخمها أكبر دليل على ذلك . فالهدف المعلن من تغيير الأزياء هو إعطاء فرصة للمرأة أن تجدد ملابسها و تغيرها حسبما يروق لهافتعبر عن ذاتها .

و لكنك لو دققت في الأمر لوجدت أنه لو أن كل امرأة أطلقت فعلاً لخيالها العنان و عبرت عن ذاتيتها خارج كل حدود و قيود و سدود فإن مصانع الملابس الحريمي ستتوقف عن الدوران لأن سلوك المرأة لن يمكن التنبؤ به ، و لن يمكن للاحتكارات أن تعد خطوط الإنتاج المليونية ! هنا تأتي مهمة الأزياء ، في أنها تقوم بضبط سلوك المرأة فتصنع لها الخطوط الأساسية التي تتحرك داخلها (الفستان الطويل الأخضر هو الموضة هذا العام ، أما العام الذي يليه فهو القصير الأزرق ، و في العام الثالث فإنه إما أن يكون كذا أو كذا ، و دوخيني يا لمونة ) و بذلك يمكن التنبؤ بسلوكها و استيعابها و استيعاب أحلامها داخل خطوط الإنتاج "

عبد الوهاب المسيري , رحلتي الفكرية: في البذور والجذور والثمر

92 " ويظهر رفض الموضوعية المُتلقيّة في دراستي عن فيلم "قائمة شندلر"، إذ بيّنت أن هذا الفيلم لا يتبنى الرؤية الصهيونية للمحرقة، التي تذهب إلى أن امحرقة ان هي إلا تعبير عن عداء الأغيار الأزلي لليهود، واستمرار للمذابح المستمرة ضد اليهود عبر التاريخ، وهي مذابح لا تفسير لها سوى كره العالم لليهود، مما يعني ضرورة تأسيس دولة يهودية لهم، وتبنّي رؤية مُغايرة.
وقد بيَّنت في الموسوعة، ابتداءً، أن بطل الفيلم الذي ينقذ اليهود ليس يهودياً، وهذا يُسقط الثنائية الصهيونية الاختزالية: اليهود ضد الجميع. كما أن الفيلم بيَّن أن حرق اليهود ليس مجرد هوس نازي، وليس مُجرد عداء أزلي من جانب الأغيار، فهو يتم لأسباب عملية نابعة من رؤية نفعية مادية واضحة ( ومن هنا التسمية "قائمة شندلر"، فهذا عالم كل شئ فيه محسوب). وبرغم أن نهاية الفيلم الملونة نهاية صهيونية، تدور أحداثها في إسرائيل، فإنها إضافة مُقحمَة، الهدف منها هو الحصول على الأوسكار. وبالفعل حصل سبيلبرج على ما يريد. ولكن إسحق رابين، رئيس وزراء إسرائيل، تَنَبَه إلى المضمون الحقيقي للفيلم، فقال إنه ليس "هولوكوستياً" بما فيه الكفاية!. "

عبد الوهاب المسيري , رحلتي الفكرية: في البذور والجذور والثمر

94 " كثيراً ما تواجهني لحظات يفقد فيها الكون معناه ، وتصبح الأمور سخيفة ونسبية ، وأبدأ في الشعور بالرغبة في تحطيم ذاتي وتحطيم من حولي . حدث لي هذا عند توقيع اتفاقية كامب ديفيد . كما حدث في عام 1979 . وأنا في الولايات المتحدة الأمريكية ، وكنت أقوم ساعتها بجولة في الكونجرس لأحدثهم عن علاقة إسرائيل بجنوب إفريقيا . وفجأة بدأت أشعر بسخافة ما أفعله وأتسائل عن جدواه . وكنت أسأل مرافقتي : لم لا أتوقف عن كل هذا ، وأذهب إلى مطعم فرنسي أو صيني يطل على النهر فأجلس فيه وأتناول ما أريد من أطعمة ثم أدخن سيجاراً وأذهب بعدها إلى المسرح وأعود إلى منزلي . وبذلك أكون قد أعطيت ظهرى للتاريخ ، بل وأخرجت لساني له ؟ لماذا سأعود إلى مصر ، وأنا عندي عروض مغرية لوظائف عديدة ؟! أمكث في أمريكا ، بلد اللاتاريخ والآن وهنا ، فأعيش في اللحظة ولا أفكر في لا في الماضي ولا في المستقبل ، فأفقد وعيي وأهنأ بما تحس به حواسي الخمس ، بحسبانه البداية والنهاية ... أليست هذه ألذ طريقة للانتحار يعرفها المرء؟! "

عبد الوهاب المسيري , رحلتي الفكرية: في البذور والجذور والثمر

99 " الدراسة الأكاديمية هي الدراسة التي يكتبها أحد المتخصصين الأكاديميين دونما سبب واضح ولا تتسم بأي شيء سوى أنها "صالحة للنشر" لأن صاحبها اتبع مجموعة من الأعراف والآليات البحثية (من توثيق ومراجع وعنعنات علمية موضوعية) تم الاتفاق عليها بين مجموعة من المتخصصين والعلماء. والهدف عادة من مثل هذه الكتابات (التي يُقال لها "أبحاث" مع أنها لا تنبع من أية معاناة حقيقية ولا تشكل "بحثًا" عن أي شيء) هو زيادة عدد الدراسات التي تضمها المسيرة العلمية للأكاديمي صاحب الدراسة. فتتم ترقيته، فالصالح للنشر هو عادة ما يؤهل للترقية. قد تقوم الدنيا ثم تقعد وقد يُقتل الأبرياء وينتصر الظلم وينتشر الظلام، وصاحب "البحث" لا يزال يكتب ويوثق ويعنعن وينشر، ثم يكتب ويوثق ويعنعن وينشر، وتدور المطابع وتسيل الأحبار ويخرج المزيد من الكتب. ثم يذهب صاحبنا إلى المؤتمرات التي تُقرأ فيها أبحاث أكاديمية لا تبحث عن شيء ليزداد لمعانًا وتألقًا، إلى أن يعين رئيس المجلس الأعلى لشئون اللاشيء الأكاديمي، يتحرك في عالم خالٍ من أي هموم إنسانية حقيقية –عالم خالٍ من نبض الحياة : رمادية كالحة هي هذه المعرفة الأكاديمية، وذهبية خضراء هي شجرة المعرفة الحية المورقة "

عبد الوهاب المسيري , رحلتي الفكرية: في البذور والجذور والثمر