Home > Work > رحلتي الفكرية: في البذور والجذور والثمر

رحلتي الفكرية: في البذور والجذور والثمر QUOTES

109 " كنت قد بدأت ألاحظ أن السلوك الشخصي للرفاق كان متناقضا مع أي نوع من أنواع المثاليات الدينية أو الإنسانية، وأن كمية النرجسية عند بعضهم كانت ضخمة للغاية . وأنا لا أمانع في وجود قدر من النرجسية عند البشر، فهذا أمر أساسي بالنسبة لهم، وخصوصا بالنسبة للثائر، فالنرجسية آلية نفسية يدافع من خلالها عن نفسه ضد مجتمع يود ابتلاعه. ولكن النرجسية التي لاحظتها في كثير من الرفاق كانت بالفعل متطرفة، والحريات الخلقية التي كانوا يسمحون لأنفسهم بها كانت كاملة، أي أنهم في واقع الأمر كانوا شخصيات نيتشوية داروينية، لا علاقة لها بالماركسية ولا بأي منظومة أخلاقية، خاصة أن بعضهم كانت ماركسيته تنبع من، حقد طبقي أعمى وليس من إيمان بضرورة إقامة العدل في الأرض. بل كثيرا ما كنت أشعر أن بعضهم كان ماركسيا بحكم وضعه الطبقي وأنه لو سنحت الفرصة أمامه للفرار من طبقته والانضمام للطبقات المستغلة الظالمة لفعل دون تردد وطلق ماركسيته طلاقا بائنا. لكل هذا قدمت استقالتي ص140 "

عبد الوهاب المسيري , رحلتي الفكرية: في البذور والجذور والثمر

110 " وقد أثبت التقدم أن تكلفته عالية، وأنه لم يشف كثيرا من أمراض الإنسان الروحية والنفسية، بل فاقمها. والتقدم، حسب ما تعلمناه، هو تطبيق النموذج الغربي في التنمية والاستهلاك. هو نموذج مبني على غزو الطبيعة والسطو عليها (عشرين بالمئة من سكان العالم من أهل الغرب يستهلكون ثمانين بالمئة من مصادرها الطبيعية). والآن، ماذا لو "تقدمت" الصين والهند حسب المقولات الغربية؟ ألا يعني هذا بليون سيارة جديدة تسير في الطرقات، يخرج عادمها وتلوث الكرة الأرضية وتحرق الأكسجين، خاصة إذا ما "تقدمت" البرازيل هي الأخرى، وبدأت في اجتثاث غابات المطر الاستوائية (لتؤسس المصانع والطرقات وتحقق "التقدم المنشود" على الطريقة الغربية، فهذا حقها القومي)، فإنها بذلك تكون قد اجتثت مصدر ثلث الأوكسجين في العالم. إذا كانت فكرة التقدم الغربية تستند إلى لامحدودية الموارد الطبيعية، فإن الممارسة أثبتت عكس ذلك، فهناك معادن آخذة في الاختفاء، وهناك أنواع من الحيوانات والنباتات تنقرض سنويا ، وهناك مشكلة النفايات الآخذة في التزايد بشكل مخيف (يقال إنه في غضون عدة أعوام ، لو استمر التقدم على ماهو عليه ، فإننا سنحتاج لست كواكب في حجم الكرة الأرضية كمصدر للمواد الخام وكوكبين آخرين للتخلص من نفايات الاستهلاك الوحشي المرتبط بالتقدم). وبطبيعة الحال، هناك النفايات النووية التي لم نعرف طريقة أكيدة للتخلص منها بعد. إن التقدم الذي كان من المفروض فيه أن يحقق سعادة الإنسان الأرضية أصبح يهدد وجوده على هذا الكوكب. وهناك سؤال أطرحه دائما على نفسي وعلى الآخرين: هل جهاز الإنسان العصبي قادر على استيعاب كل هذه الأحاسيس والأفكار والمعلومات التي ترسل له يوميا من بيئته الاجتماعية التي يزداد إيقاعها سرعة ووحشية ؟! وهو السؤال الذي يجب أن نتوقف قليلا لنسأله. "

عبد الوهاب المسيري , رحلتي الفكرية: في البذور والجذور والثمر

117 " كانت المحاضرات التي ألقيها على الطالبات في كلية البنات في جوهرها حواراً مع ذاتي بصوت عال، ومحاولة للوصول إلى أجوبة عن الأسئلة التي تلاحقني. وقد قمت بتدريس الشعر الرومانتيكي والفيكتوري، وهو يناقش نفس المشكلات الفلسفية التي واجهتها ويحاول الإجابة عن نفس الأسئلة التي طرحتها. وأذكر بالذات تدريس قصيدة "الملاح القديم" لكوليردج، وهي قصة ملاح يتسم بسذاجة الماديين وتجردهم ونفعيتهم، يواجه العالم بهذه الرؤية البسيطة فيحاول توظيفه والتحكم الكامل فيه. فالعالم ـ في تصوره ـ تحكمه سببية مادية بسيطة. فيصرع طائر القطرس الأبيض رمز الجماعة الإنسانية والمحبة، بل رمز الإله؛ لا رحمة فيه ولا محبة، فتصبح الحياة خراباً ويباباً وتتوقف السفينة عن الإبحار، بل تتعفن المياه نفسها. ثم يدفع المذنبون ثمن خطيئتهم فيُعاقب البحارة بالموت، أما الملاح القديم فيُعاقب "بالحياة في الموت." وبالتدريج يكتشف الملاح أن عالم المادة وحسابات المكسب والخسارة لا تنفع كثيراً في عالم الإنسان، فيتحول عالمه من مادة محضة إلى عالم تسري فيه الروح. فيدرك جمال أصغر المخلوقات البحرية وأكثرها قبحاً ويباركها، أي أنه بدأ يدرك القيمة المطلقة للأشياء. فتذهب اللعنة وتحل البركة وتعود القداسة وتدب الحياة من حوله مرة أخرى لأنه أثبت مقدرته على الحب وعلى الإحساس بالجمال. "

عبد الوهاب المسيري , رحلتي الفكرية: في البذور والجذور والثمر

118 " يخيل إلي أحيانا أننا يجب أن ننظر إلى الإباحية الأمريكية لا في علاقتها بالجنس وإنما في علاقتها بالتشريح، فبعض الأعمال الإباحية الحديثة لا تنظر للجسد باعتباره شيئا يثير الشهوة وإنما باعتباره شيئا ينظر إليه بشكل معملي شبه محايد. فالتعرية هنا تبدأ بالجسد وتنتهي بتعرية الإنسان من تركيبته وإنسانيته. لكل هذا يُنظر للجنس بطريقة محايدة للغاية وكأنه نشاط بيولوجي منفصل عن القيمة (كنت أحاول أن أشرح هذه القضية لبعض الفقهاء ممن كانوا يتحدثون عن "الزنى" في الغرب وكأن الغرب لا يزال يدور داخل إطار الحلال والحرام. فكنت أقول لهم: عندنا في مجتمعاتنا إذا اجتمع رجل وامرأة كان الشيطان ثالثهما. المشكلة في الغرب أن الشيطان لا يحضر، لأن المسألة أصبحت طبيعية ومحايدة بدون أي إحساس بالذنب إلى درجة أنها أصبحت قضية إجرائية بحتة: أين؟ متى؟ إلخ. وكنت أخبرهم أنني أرحب بحضور الشيطان فهو على الأقل يذكرنا بالله، تماما كما يذكرنا الشر بالخير، والحرام بالحلال. "

عبد الوهاب المسيري , رحلتي الفكرية: في البذور والجذور والثمر