Home > Work > الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي

الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي QUOTES

3 " If we live in a world of states, and if out-of-state existence is impossible, then we all must live as national citizens. We are the nation, and the nation is us. This is as fundamental as it is an inescapable reality. Nationalism engulfs both the individual and the collective; it produces the 'I' and 'We' dialectically and separately. Not only does nationalism produce the community and its individual members: it is itself the community and its realized individual subjects, for without these there is no nationalism.

"Leading sociologists and philosophers have emphasized the pervasive presence of the community in individual consciousnesses, where the social bond is an essential part of the self. It is not only that the 'I' is a member of the 'We,' but, more importantly, that the 'We' is a necessary member of the 'I.' It is an axiom of sociological theory, writes Scheler, that all human knowledge 'precedes levels of self-contagiousness of one's self-value. There is no "I" without "We." The "We" is filled with contents prior to the "I." ' Likewise, Mannheim emphasizes ideas and thought structures as functions of social relations that exist within the group, excluding the possibility of any ideas arising independently of socially shared meanings. The social reality of nationalism not only generates meanings but is itself a 'context of meaning'; hence our insistence that nationalism constitutes and is constituted by the community as a social order. 'It is senseless to pose questions such as whether the mind is socially determined, as though the mind and society each posses a substance of their own' [citing Pressler and Dasilva's Sociology]. The profound implications of the individual's embeddedness in the national community is that the community's ethos is prior and therefore historically determinative of all socioepistemic phenomena. And if thought structures are predetermined by intellectual history, by society's inheritance of historical forms of knowledge, then those structures are also a priori predetermined by the linguistic structures in which this history is enveloped, cast, and framed.

Like law, nationalism is everywhere: it creates the community and shapes world history even before nationalism comes into it. "

Wael B. Hallaq , الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي

4 " ‎"The indictment [the Western/modern question, 'Why be moral?'] also issued from a gross underrating of the 'moral' force that was regarded within the Islamic tradition as an essential and integral part of the 'law.' At the foundation of this underrating stood the observer's ideological judgement about religion (at least the Islamic religion), a judgment of repugnance, especially when religion as a moral and theological force is seen to be fused with law. The judgement, in other words, undercuts a proper apprehension of the role of modernity as a legal form, of its power and force. Historical evidence [in modernity/Enlightenment thought and its intellectual progeny] was thus made to fit into what makes sense to us, not what made sense to a culture that defined itself -- systematically, teleologically, and existentially -- in different terms. This entrenched repugnance for the religious -- at least in this case to the 'Islamic' in Muslim societies -- amounted, in legal terms, to the foreclosure of the possibility of considering the force of the moral within the realm of the legal, and vice versa. Theistic teleology, eschatology, and socially grounded moral gain, status, honor, shame, and much else of a similar type were reduced in importance, if not totally set aside, in favor of other explanations that 'fit better' within our preferred, but distinctively modern, countermoral systems of value. History was brought down to us, to the epistemological here and now, according to our own terms, when in theory no one denies that it was our historiographical set of terms that ought to have been subordinated to the imperatives of historical writing. "

Wael B. Hallaq , الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي

9 " كان للمجتمع الإسلامي من شمال أفريقيا والأندلس إلى جاوة وسمرقند نصيبٌ من البؤس. فقد كان له من غزوه واحتلوه، كما كان له متمردوه ونشّالوه ولصوصه وقطّاع طرقه، بل وقضاته الفاسدون أحيانًا(64). لكن القانون الأخلاقي كان مهيمنًا دائمًا بلا منازع، كما سنرى، واستمرت خطاباته وممارساته النموذجية في تأكيد نفسها بالإنتاج المستمر لنظامٍ معين(65). ولطالما أَمْكَنَ للواقع الاجتماعي المضطرب متمثلاً في الطفل المظلوم والتاجر المسروق والفلاح المرهق بالضرائب أن يعتمد على نظامٍ أخلاقي مهيمن سعى بكلّ جهده للتعامل مع ذلك الواقع. أما كونه لم يكن ناجحًا على الدوام فهي حقيقةٌ بداهية فالنجاح الكامل ليس من حظ أي مجتمعٍ في الماضي أو في الحاضر. ولكن الفاعلية النموذجية للاتجاه الأخلاقي أمر ليس محل شك(66). لطالما سعى النموذج، مثله مثل قواعده القانونية الخاصة والفنية، إلى تحقيق تلك الغاية الأخلاقية، ففشل أحيانًا ونجح في أغلب الأحيان، وذلك بالتحديد هو ما جعله نظامًا نموذجيًا. "

Wael B. Hallaq , الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي

10 " وفي نظر فيبر، تمثل الحرية الفردية وتقرير المصير المستقل والعقلاني وهو ما أعاد ماركيز وصفه بـ«اللاحرية الديمقراطية»(532) توترًا ضخمًا بين النظام الأخلاقي/الروحاني وعالم المادة والمادية، أي بين أخلاقية الاهتمام بالذات وأخلاقية إرضاء الذات. هكذا تغدو قيمة الحياة خارجيةً لا داخلية. وهي تولي أهمية عظمى للانضباط والكفاءة والعمل، وهذه ثلاثةٌ من بين الدروس الكثيرة التي غرستها الدولة في مواطنيها كطبيعةٍ ثانيةٍ لهم. فمثلما أعمل من أجل العمل(533)، ومثلما يسعى مال الرأسمالية إلى تكديس الثروة، فإن الدولة توجد من أجل نفسها، وتديم نفسها لمجرد إدامة نفسها(534). وكان فيبر قد رأى في زعم التقدم الذي تزعمه الحداثة مفهومًا يضاهي «إنتاج الثروة وتراكمها والسيطرة على الطبيعة... إضافةً إلى فكرة تحرير الذات العقلانية»(535). بيد أن ثمن التقدم كان ما دعاه فيبر «الحرمان الروحاني»(536) (disenchantment)، وهو شعورٌ عميقٌ بالضياع، ضياع المقدس وضياع حالة الاكتمال ضياع الإرساء الروحي للذات في العالم والطبيعة وفي ما دعوته نظرةً كونيةً أخلاقية (Moral Cosmology). "

Wael B. Hallaq , الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي

11 " ينبع الكفاح السياسي والقانوني والثقافي لمسلمي اليوم من قدْرٍ من غياب الانسجام بين تطلعاتهم الأخلاقية والثقافية من جهة، والواقع الأخلاقي للعالم الحديث من جهة أخرى، وهو واقع لا بد لهم من العيش فيه، وإن كانوا لم يصنعوه بأنفسهم. فالغرب (وهو ما أعني به هنا أوروبا وأميركا بصورة أساس) يعيش على نحو ما براحةٍ أكبر في حاضرٍ يحتل موقعه في سياق سيرورة تاريخية صنعها هو نفسه. إنه يعيش مرحلة شكلتها مباديء عصر التنوير، والثورات الصناعية والتكنولوجية، والعلم الحديث، والقومية، والرأسمالية والتراث الدستوري الأميركي - الفرنسي، وهذه كلها وأكثر منها منتجات نشأت عضويًا وداخليًا في الغرب. وقد حذا العالُم حذو الغرب في ذلك أو شعر، على الأقل، بالضغط من أجل أن يفعله. فليس هناك بالفعل أي تاريخ آخر غير التاريخ الأوروبي - الأميركي، بل ثمة تاريخ أوروبي فبل عصر التنوير. وربما أنقِذت أو "أستُردت" بعض الشرائح الثانوية من التاريخ السابق، مثل "الديمقراطية" اليونانية وأرسطو والماغنا كارتا وخلافه، لكنها تظل أمورًا فرعية، إن لم تكن أداةً للإملائات التي تفرضها السردية التاريخية الحديثة وأداةً لتقدم "الحضارة الغربية". "

Wael B. Hallaq , الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي

14 " فحتى لو سلمنا جدلًا بزعم الحداثيين أن الفقر والمرض والجوع هم إصر البشرية من فجر الزمن، فإن المدافعين أنفسهم عن فضائل المشروع الحديث لا بد أن يواجهوا زعميْن نقيضين وربما ثلاثة. والنقيض الأول والأقل إقناعًا بين الثلاثة هو أنه بينما كان الفقر والجوع والمرض قبل عصر الحداثة من عمل الطبيعة، وكان ذلك أمرًا ليس منه بد، فإن تلك الأشياء غالبًا ما تكون الآن من عمل الإنسان، فالرأسمالية والنزعة التصنيعية (industerialism) ودمار البيئة الطبيعية الناتج عن ذلك ليس من عمل الطبيعة، وإنما هي من آثار ما يُوصَف بالتقدم. أما النقيض الثاني والأكثر ثبوتًا من الأول، فهو التفكك الحديث، في ظل رأسمالية الدولة، لما كان في وقت ما بنى عضوية واجتماعية وأسرية. وهنا لا يمكن إنكار أن انهيار الأسرة والجماعة التقليدية خلق، في جانب منه، فردًا مغتربًا ومتشظيًا ونرجسيًا، هو موضوع بحث كثير من المفكرين وعلماء الاجتماع والمحللين النفسيين والفلاسفة في العصر الحديث. وهذا الانهيار جزءٌ لا يتجزأ من المشروع الحديث، كما أنه يحدده على نحوٍ جوهري. والنقيض الثالث والأكثر أهمية، أنه لا يوجد شكٌ مطلقًا في الآثار الكارثية للمشروع الحديث على العالم الطبيعي الذي نعيش فيه، وهو مشروع غير مسبوق، ويعتبر بأقوى المعاني “المقياس النهائي للانسان "

Wael B. Hallaq , الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي

15 " لم يكن ثمّة دولةٌ إسلامية قط. فالدولة شيءُ حديث، وعندما أقول “حديث” فأنا لا أشير إلى فترة زمنية معينة في موضع معين من مسار التاريخ الإنساني. فالحديث هو بنيةٌ معينة من العلاقات التي تًتميزّ كظاهرةٍ فريدة. إنه خاصية معينة. ولذلك، فإن اللجوء إلى استعمالات مثل “الدولة الإسلامية” ككيانٍ وجد في التاريخ - ليس انخراطًا في تفكيرٍ ينطوي على مفارقة تاريخية فحسب، بل ينطوي كذلك على سوء فهم للاختلافات البنيوية والنوعية بين الدولة الحديثة و”أسلافها”، خصوصًا ما سميته “الحكم الإسلامي”.

يقوم الحكم الإسلامي (الذي يوازي ما نطلق عليه اليوم اسم “الدولة”) على أسس أخلاقيٍة وقانونيةٍ وسياسيةٍ واجتماعية وميتافيزيقية مختلفة جذريًا عن الأسس التي تدعم الدولة الحديثة. ففي الإسلام، تحل الجماعة (الأمة) محل شعب الدولة القومية الحديثة. والأمة شيء مجرد ومادي في آن معًا، لكنها في كلتا الحالتين محكومة بالقواعد الأخلاقية ذاتها. وهي أيضًا، في شكلها المجرد، تشكيل سياسي محدود بمفاهيم أخلاقية - قانونية. وبصفةٍ عامة، فإن كل إقليم تُطَّبق فيه الشريعة كقانونٍ نموذجي يُعتبر مجالًا إسلاميًا، أو دار الإسلام. وكل مكان لا تعمل فيه الشريعة، أو تُبْتَعد فيه إلى مكانةٍ ثانويةٍ أو متدنية، يعد دارًا للحرب، أي إقليمًا يحتمل خضوعه لعملية هداية أو تحوّل إلى الإسلام سلمًا أو حربًا "

Wael B. Hallaq , الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي

16 " فيما يتعلق بالممارسة القضائية، كان الخصوم والمتقاضون يقفون أمام القاضي من دون مراسم ويعرضون قضاياهم من دون الحاجة إلى وساطٍة احترافية، إذ ليس في الشريعة محامون. كان المتقاضون يتحدثون بصورةٍ غير رسمية من دون أن يعيقهم أي شيء مما نجده في الضبط الصارم للمحاكم الحديثة (بل إنَّ فكرة ازدراء المحكمة، تلك الفكرة الانضباطية إلى أبعد حد، لم يكن لها وجود). وكانوا يعرضون قضاياهم كما يعرفون، من دون لغة اصطلاحية. وكان ذلك ممكنًا لأنه لم تكن في نظام العدالة الإسلامي فجوة بين المحكمة كهيئةٍ قضائية والمتقاضين، مهما كانوا معدمين اقتصاديًا أو محرومين تعليميًا.

بيد أن غياب تلك الفجوة لا يرجع بالكامل إلى المحكمة والقاضي فحسب، حيث يجب أن نقر بفضل المتقاضين أنفسهم بالدرجة نفسها. فخلافًا للمجتمع الحديث المعزول عن المجال القانوني بصورٍ عدة، كان المجتمع المسلم ما قبل الحديث مرتبطًا بنظام القيم الشرعي بقدر ما كانت المحكمة نفسها متجذرةً في العالم الأخلاقي للمجتمع. ومن الملامح البارزة لذلك المجتمع أنه كان يعيش الأخلاق القانونية والقواعد الأخلاقية القانونية، لأنها كانت تشكّل الأسس الدينية وسنن السلوك الاجتماعي. ومن الواضح كل الوضوح أن القانون الأخلاقي للمجتمعات الإسلامية ما قبل الحديثة كان تراثًا حيًا ومَعِيشًا. "

Wael B. Hallaq , الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي

17 " لمّا كان القانون تراثًا مَعِيشًا وحيًا، فإن الناس كانوا يعرفون ما القانون. بعبارةٍ أخرى، كانت المعرفة القانونية واسعة الانتشار ومتاحةً بفضل المفتين والفقهاء الآخرين الذين كانوا مستعدين لمنحها مجانًا وربما في أي وقت أراد شخص ما الحصول عليها. هكذا، كان المحرومون يعرفون حقوقهم قبل الذهاب إلى المحكمة، وذلك ما يفسر فوزهم في أغلب القضايا التي كانا مدعين فيها. فمستشاروهم لم يكونوا محامين يتكلمون لغةً مختلفة وغير مفهومةٍ، ولا مهنيين نخبويين يتقاضون أجورًا مرتفعة تجعل تكلفة التقاضي واسترداد الحقوق في أغلب الأحيان مماثلة لقيمة الأمر الذي يدور حوله التقاضي.

بيد أن انتشار القواعد الأخلاقية القانونية والمعرفة القانونية في عالم الإسلام الاجتماعي نجم أيضًا عن تراثِ متراكم منقولِ من جيل إلى جيل، عززته في كل مرحلة مشاركة نشطة لطلاب القانون الطموحين، وكبار المفتين وصغارهم، والأئمة، والنصائح التي كان يعطيها القضاة وذوو العلم الآخرون من حينٍ إلى آخر عندما كانوا يزورون معارفهم أو يسيرون في الشوارع أو يتسوقون في الأسواق. وحين كان الناس العاديون يمثلون أمام المحكمة، كانوا يتكلمون لغةً “قانونيةً” مفهومة للقاضي مثلما كانت لغة القاضي “الأخلاقية” المحلية مفهومة للناس. وإلى حد بعيد، لم يكن هناك انفصال بين القواعد القانونية والأخلاق الاجتماعية، إذ اعتمدت كل منها على الأخرى ودعمتها في الوقت نفسه. وبقدر ما كانت المحكمة الإسلامية مؤسسةً اجتماعية وقانونيةً، فإنها كانت أساسًا نتاج المجتمع نفسه الذي كانت تخدمه وتعمل بين ظهرانيه "

Wael B. Hallaq , الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي

18 " القانون الحديث النموذجي هو قانون وضعي، وقد حكم أسطورة الإرادة السيادية. أمّا الشريعة الإسلامية فليست وضعية، بل هي قواعد موضوعيةٌ قائمة على مبادئ دقيقة تعدديةٍ بطبيعتها، ومتجذرة في نهاية الأمر في ضرورة مطلقة أخلاقيٍة كونية. وإذا أراد المسلمون اليوم تبني قانون الدولة الوضعي وسيادتها فإن ذلك يعني بلا شكّ قبولًا بقانون نابع من إرادةٍ سياسية، أي قانون وضعه أناس يغيرون معاييرهم الأخلاقية بحسب ما تتطلب الظروف الحديثة. كما يعني القبول بأننا نعيش في كونٍ باردٍ نملكه ونستطيع أن نفعل به ما نشاء. كذلك يعني هذا القبول بأن تُنحَّى جانبًا المبادئ الأخلاقية للقرآن والشريعة التي قامت على الأخلاق لقرونٍ، لمصلحة قوانين مغايرة صنعها الإنسان، وأقرّت بين ما أقرّت السيطرة على الطبيعة نفسها وتدميرها، وهي التي خلقها الله للبشرية للتمتع بها على أساس المسؤولية الأخلاقية. إن قبول هذا أو رفضه هو سؤال لا يمكن أن يجيب عنه إلا المسلمون أنفسهم. غير أن ما يعنينا هنا - إذا نظرنا إلى الموضوع بروح محايدة - هو أنه ليس لدى المسلمين من الأسباب ما يدفعهم إلى اختيار قانون الدولة الحديثة، لأنهم ما زالوا يتمتعون بثقافةٍ قانونيةٍ أصرّت لأكثر من اثني عشر قرنًا على قانونٍ ذي بنيةٍ نموذجيةٍ، أي قانونٍ أعطاه لحْمَته وسُدَاه مصدرٌ أخلاقي شامل "

Wael B. Hallaq , الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي

19 " أدت التمايزات الاجتماعية والاقتصادية الصارخة وظروف العمل الرهيبة والحكم الملكي الذي لم يكد يخرج من عصر الحكم المطلق إلى نشأة عنف العامّة والمجتمعات الحضرية الجامحة، ما دفع بدوره الدولة إلى تكوين جهاز شرطةٍ منظم ومزود جيدًا بالعناصر. ولم يكتفِ هذا الجهاز بمواصلة حضوره في تلك المناطق الحضرية بل طال بسطوته الريف الذي كان بعيدًا عن رقابة الحكّام في السابق. وفي نهاية القسم الأخير من القرن التاسع عشر، لم تعد أي قريةٍ أو بلدة أو مدينة قادرة على الهرب من رقابة هذا الجهاز. ولدعم هذا الجهاز الشرطي، أُنشيء نظام سجونٍ ضخم وغير مسبوق. بيد أن القوة المادية الفجة لم تكن كافية، وهذا ما فهمه الحكام الأوربيون. وكان لزامًا على الشعب أن يتعلم طرق السلوك القويم، أي النظام الاجتماعي، وكان ذلك يعني، في نظام رأسمالي شامل، القدرة على العمل والانتاج. هكذا تُرْجِمَ الضبط على أنّه مكان يكتنف الذاتَ فيه نظامُ فْرض ومنفعة أداتّية. وكان النظام الدي جرى تبنّيه لإتمام هذه الآلية التنظيمية هو المدرية التي راحت تبزغ في كل مكانٍ بأشكالٍ متعددة. وأصبحت المدرسة، بالتوازي مع تقوية جهاز الشرطة، عنصرًا اجتماعيًا اعتياديًا في نهاية أواخر القرن التاسع عشر. وبعذما شُرعَت كشيء إلزامي (ما يعني حرفيًا إكراه الآباء على إرسال زولادهم إلى المدارس وإلا فالسجن)، ما أَجْبَرَ التعليم الابتدائي الغالبية العظمى من الأطفال الأوروبيين الدخول في نظام صارم، حيث تُحْقَنُ عقولهم بأفكار ومُثل معينة. وعلى الرغم من ذلك، لم تكن الشرطة والتعليم المدرسي كافيين، إذ زاد الفقر عقب الثورة الصناعية وأصبح السخط الاجتماعي أكثر وضوحًا. وسرعان ما زدرك المصلحون والسياسيون والحكام الدين لا تزال الثورة الفرنسية وأسباب السخط التي أدت إليها حيّة في ذاكرتهم، أنَّ الفقر قد يقود إلى ثورةٍ ثانية، يمكن لها أن تسحب كلًا من السلطة السياسية والتميز الاقتصادي من تحت أقدامهم. وسرعان ما بُدِئ بتأسيس نُظُم الرفاه الاجتماعي في كل الدول الأوروبية، ما أوجد شبكة أمانٍ اجتماعية، والأهم منها مؤسسات الصحة العامة والمستشفيات المتخصصة "

Wael B. Hallaq , الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي