Home > Work > علي وبنوه

علي وبنوه QUOTES

6 " وليس من اليسير أن نقطع برأي في عدد الجيشين اللذين التقيا بصَفّين واقتتلا قتالاً طويلاً منكراً لم يُر مثله قط في الإسلام، أي لم يُرَ مثله قط بين المسلمين. فقوم يبلغون بجيش عليّ مئة ألف، ويبلغون بجيش معاوية سبعين ألفاً. وقوم ينزلون بهذين الرقمين إلى أقل من ذلك. وليس من اليسير كذلك أن نحصى عدد القتلى من أولئك وهؤلاء، وقد زعم قوم أن القتلى من أهل الشام بلغوا خمسة وأربعين ألفاً، وأن القتلى من أهل العراق بلغوا خمسة وعشرين ألفاً.
وليس المهم الآن أن نحصى الجيشين إحصاءً دقيقاً، ولا أن نحصى القتلى منهما إحصاءً دقيقاً وإنما المهم هو أن نلاحظ أن الخصمين قد تأهَّبا كأحسن ما تكون الأهبة وأقواها، واضطرهما ذلك إلى أن يكشفا ثغورهما المحاذية للعدو قليلاً أو كثيراً. وآية ذلك أن الروم طمعوا في الشام وهمّوا بغزوها، لولا أن معاوية وادَعهم وصانعهم واشترى كفَّهم عنه بالمال. ولم تكن بإزاء ثغور العراق في الشرق دولة قوية منظمة كدولة الروم، ولكن كثيراً من مدن الفرس تنكَّر للمسلمين وهمَّ بالثورة لولا ما كان من رجوع عليّ إلى الكوفة وتكلّفه ضبط هذه الثغور. وإذا طال القتال بين جيشين عظيمين واشتد، وبلغ من القبح والشناعة ما صوّره المؤرخون وأصحاب القصص، كَثُر القتلى والجرحى من الفريقين، وإن بالغ القصّاص بعد ذلك في عدد أولئك وهؤلاء.
والشيء الذي لا شك فيه هو أن جماعة من خيار المسلمين وأعلامهم من أهل العراق وأهل الشام قد قتلوا في هذه الحرب، وكان قتلهم مروّعاً لمن شهده ولمن سمع الحديث بذكره بعد انقضاء الحرب، وما زال مروّعاً للذين يقرءونه الآن في كتب القصص والتاريخ.
فقد قُتل من أصحاب معاوية عبيد الله بن عمر بن الخطاب، قاتل الهرْمزان، كما قُتل جماعة من خيار أصحابه وأعظمهم شجاعة ونجدة وبأساً. وقتل من أصحاب عليّ عمار بن ياسر، وما زال قتله من الأحاديث المأثورة بين المسلمين، فهو ابن أول شهيدين في الإسلام. فتن أبو جهل أباه ياسراً وأمه سُمَيّة حتى قتلهما كما هو معروف. وهو الذي قال له النبي: ويحك يا ابن سُمَيّة، تقتلك الفئة الباغية. وقد أشفق الزبير، كما رأيت، من حرب عليّ حين عرف أن عمَّاراً معه. وكان خُزَيمة بن ثابت الأنصاري يتبع عليّاً في صفين ولكنه لا يقاتل، وإنما يتحرى أمر عمّار، فلما عرف أنه قد قُتل قال: الآن استبانت الضلالة. ثم قاتل حتى قتل. رأى أن أهل الشام قد قتلوا عمّاراً فعرف أنهم الفئة الباغية التي ذكرها النبي في حديثه ذاك. ووقع قَتْل عمار من معاوية وأصحابه وقعاً أليماً مروّعاً، لم يشكّوا في أن النبي قال له: تقتلك الفئة الباغية، وإنما حاولوا أن يخفوا علمهم بهذا الحديث. فلما لم يجدوا إلى ذلك سبيلاً تأولوه. وقال معاوية: أنحن قتلناه؟ إنما قتله الذين جاءوا به. "

طه حسين , علي وبنوه

8 " وكان في مكة من أزواج النبيّ حفصة بنت عمر وأم سَلَمة وعائشة بنت أبي بكر. وقد أخذت عائشةُ طريقها إلى المدينة بعد أن قضت مناسكها، وعرفت أثناء سفرها مقتل عثمان وخُبّرت بأن طلحة قد بُويع له فأظهرت بذلك ابتهاجاً. فقد كان طلحة مثلها تَيْميّاً. ولكنها لقيت في طريقها من أنبأها بحقيقة الأمر وبأن عليّاً هو الذي تمّت له البيعة في المدينة. فضاقت بذلك ضيقاً شديداً وأعلنت أنها كانت تؤثر انطباق السماء على الأرضَ قبل أن ترى عليّاً وقد أصبح للمسلمين إماماً. ثم قالت لمن كان معها: ردُّوني. فرجعوا بها أدراجهم إلى مكة. وكان معروفاً أن عائشة رحمها الله لم تكن تحب عليّاً ولا تهواه، بل كان معروفاً أنها كانت تجد عليه مَوْجدة شديدة منذ حديث الإفك حين أراد عليّ أن يواسى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأشار عليه بأن يطلقها وقال له: «إن النساء غيرها كثير». ». وكان ذلك قبل أن يُنزل الله براءتها في القرآن. فلم تنسَ لعليّ قوله ذاك. وكانت عائشة شخصية من أقوى الشخصيات التي عرفها تاريخ المسلمين في ذلك العهد، لم تكن رفيقة كأبيها وإنما كانت شديدة كعُمَرَ، على احتفاظ منها بكثير مما ورثت العرب عن جاهليتها. فكانت تحفظ الشعر وتكثر من حفظه وإنشاده والتمثل به، حتى إنها رأت أباها وهو يحتضر، فتمثَّلت قول الشاعر:

لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حَشْرجت يوماً وضاق بها الصدرُ

وسمعها خليفةُ رسول الله أبوها فقال لها كالمنكر عليها: بَخٍ بَخٍ يا أم المؤمنين! هلا تلوث قول الله عز وجل: ﴿وجاءَتْ سَكْرةُ الموْتِ بالحق ذلك ما كنت منه تَحِيد﴾.
وكانت من أشد نساء النبيّ إنكاراً على عثمان، لم تتحرّج أن تصيح به من وراء سترها وهو على المنبر حين عاب عبدَ الله بن مسعود فأسرف في عيبه. ولم تكن تتحفّظ من الاعتراض على كثير من أعمال عثمان ومن سيرة عمّاله حتى ظن كثير من الناس أنها كانت من المحرّضين على الثورة به. وكانت تُنكر على عليّ فيما أعتقد أمرين آخرين: أحدهما لم يكن لعليّ فيه خيَرة، فقد تزوّج فاطمةَ بنت رسول الله ورُزق منها الحسن والحسين، فكان أبا الذرية الباقية للنبيّ، ولم يُتح لها هي الولد من رسول الله، مع أنه قد أتيح لمارية القبطية أم إبراهيم في أواخر أيام النبيّ. فكان هذا العُقيْم يؤذيها في نفسها بَعضَ الشيء، ولا سيما وهي كانت أحبَّ نساء النبي إلى النبيّ.

أما الأمر الآخر فهو أنّ عليّاً قد تزوج أسماء الخثْعميَّة بعد وفاة أبي بكر رحمه الله، وأسماءُ الخثعمية هي أم محمد بن أبي بكر الذي نشأ في حجر عليّ، فكانت عائشة تجد على عليّ لهذا كله. وقد عادت إلى مكة مغاضبةً حين عرفت أن أهل المدينة قد بايعوا له. فلما رجعت إلى مكة عمدت إلى الحِجْر فاتخذت فيه ستراً وجعل الناس يجتمعون إليها فتحدّثهم من وراء الستر: تُنكر قتل عثمان وتقول: «لقد غضبنا لكم من لسان عثمان وسوطه، وعاتبناه حتى أعتب وتاب إلى الله وقَبِل المسلمون منه، ثم ثار به جماعة من الغوغاء والأعراب فماصُوه مَوْص الثوب الرخيص حتى قتلوه، واستحلّوا بقتله الدم الحرام في الشهر الحرام في البلد الحرام». "

طه حسين , علي وبنوه

12 " ولم يكد زياد يلي البصرة حتى سار في الناس سيرة تناقض كل المناقضة سيرته فيهم حين كان عاملاً لعليّ، وحتى اعتمد في سياسته لهم على الإرهاب أكثر مما اعتمد على أي شيء آخر.

وليس من شك عندي في أن مرجع ذلك ليس إلى حاجته وحاجة معاوية إلى ضبط العراق وحمل أهله على الطاعة فحسب، ولكن إلى عُقدة نفسيَّة أدركته وأفسدت عليه أمره بعد الاستلحاق. فهو كان يعرف رأي المسلمين في نسبه هذا الجديد، وكان يعرف إنكارهم له واستهزاءهم به، وكان يعلم أن العرب لا تسخر من شيء كما تسخر ممن يُدعى لغير أبيه. وقد حمله ذلك على أن يسوس الناس بالخوف والذُّعر، ويحول بينهم وبين أن يجمجموا بما في نفوسهم من نسبه واستلحاقه وسيرته وسيرة معاوية في أمور المسلمين، فوفق إلى ذلك أشنع التوفيق وأشدّه نُكْراً. خاض إليه دماء الناس، وأهدر في سبيله حقوقهم وكرامتهم، وأحدث فيهم من ألوان الحكم ما لم يعهدوه من قبل. وزعم كما سترى في خطبته، أن الناس أحدثوا أشياء لم تكن، وأنه أحدث لكل ذنب عقوبة. ومعنى ذلك أن ما بيّن الله ورسوله للمسلمين من الحدود، وما ساس به الخلفاء الراشدون أمور الناس، لم يكن في رأي زياد كافياً لحمل أهل البصرة وأهل الكوفة على الجادة، والرجوع بهم إلى الصراط المستقيم. "

طه حسين , علي وبنوه

18 " وبعض المؤرخين يزعم أن جَعدة بنت الأشعث بن قيس زوج الحسن هي التي اختارها معاوية لتدسّ السم للحسن في بعض شرابه أو طعامه، ورشاها في ذلك بمائة ألف دينار. ومنهم من يزعم أنه وعدها بأن يتخذها لنفسه زوجاً. فلما مات الحسن وفى لها معاوية بالمال وكره أن يتزوجها، مخافةَ أن تفعل به ما فعلت بالحسن. والتكلف في هذه الرواية ظاهر، ذهب بها أصحابها إلى ما عُرف من كيد الأشعث ابن قيس لعليّ فأرادوا أن تكون ابنته هي التي كادت للحسن حتى أوردته الموت.
وبعض المؤرخين يرون أن معاوية لم يُبعد في الاختيار بين زوجات الحسن، وإنما اختار لسمّه قرشية هي هند بنت سهيل بن عمرو، ذلك الذي سفر عن قريش إلى النبي في صُلح الحُديبية.
ولست أقطع بأن معاوية قد دس إلى الحسن منْ سمّه، ولكني لا أقطع كذلك بأنه لم يفعل، فقد عُرف الموت بالسم في أيام معاوية على نحو غريب مريب. مات الأشتر ـ فيما يقول المؤرخون ـ مسموماً في طريقه إلى ولاية مصر، فخلصت مصر لمعاوية وقال معاوية وعمرو: «إن لله لجنداً من عسل». ومات عبد الرحمن بن خالد بن الوليد مسموماً بحمْص في خبر طويل. ومات الحسن بين هذين الرجلين مسموماً كذلك في أكبر الظن، وخلصت الخلافة لمعاوية وابنه يزيد. "

طه حسين , علي وبنوه

20 " وكذلك أخفق سفير معاوية كما أخفق سفير عليّ من قبل، واستبان لأهل الشام كما استبان لأهل العراق أن ليس من الحرب بُدّ. يرى أهل الشام أن يثأروا للخليفة المظلوم، ويرى أهل العراق ومن معهم من المهاجرين والأنصار أن يُكرهوا أهل الشام على البيعة والطاعة قبل كل شيء. ويرى أهل الشام أن طاعة عليّ لا تلزمهم، لأن الناس لم يبايعوه عن رضى منهم جميعاً ولأنه عطل حدّاً خطيراً من حدود الله، وهو القصاص ممن قتل الخليفة المظلوم. ويرى أهل العراق ومن معهم من المهاجرين والأنصار أن كثرة المسلمين الضخمة قد بايعت عليّاً في الحرمَيْن والمصرِيْن وفي مصر أيضاً، فأصبحت طاعته واجبة وأصبح أهل الشام طائفةً باغية يجب أن تُقاتَل حتى تفيء إلى أمر الله.
ولم يأت شهر ذي الحجة من سنة ست وثلاثين حتى كان عليّ قد قدّم طلائعه بين يديه وأمرهم إن لقوا أهل الشام ألاّ يبدءوهم بقتال حتى يدركهم، وسار هو في معظم جيشه حتى انتهى وانتهت طلائعه إلى صِفِّين بعد خطوب كثيرة لسنا في حاجةٍ إلى أن نُطيل بذكرها. "

طه حسين , علي وبنوه