Home > Work > علي وبنوه

علي وبنوه QUOTES

21 " ومضى ابن عباس آمناً يحميه أخوالُه ويحمون ما أخذ من المال حتى بلغ مأمنه في ظل البيت الحرام. ولم يكد يستقر بمكة حتى أقبل على شيء من الترف. واشترى، فيما يروي المؤرخون، ثلاث جوارٍ مولدات حُور بثلاثة آلاف دينار.
وعرف عليٌّ ذلك فكتب إليه:
«أما بعد. فإنى كنت أشركتُك في أمانتي، ولم يكن في أهل بيتي رجل أوثق منك في نفسي لمواساتي ومؤازرتي وأداء الأمانة إليّ. فلما رأيتَ الزمانَ على ابن عمَّك قد كَلب، والعدوَّ عليه قد حَرب، وأمانة الناس قد خربت، وهذه الأمة قد فتنت، قلبت له ظهر المِجَنّ، ففارقته مع القوم المفارقين، وخذلته أسوأ خذلان الخاذلين، وخنته مع الخانئين. فلا ابن عمّك آسيت، ولا الأمانة أديت، كأنك لم تكن لله تُريد بجهادك، أو كأنك لم تكن على بيِّنة من ربك. وكأنك إنما كنت تكيد أمة محمد عن دنياهم أو تطلب غرّتهم عن فيئهم. فلما أمكنتك الغرة أسرعت العدوة، وغلظت الوثبة، وانتهزت الفرصة، واختطفت ما قدرت عليه من أموالهم اختطاف الذئب الأزَلّ دامية المعزى الهزيلة وظالِعَها الكبير. فحملت أموالهم إلى الحجاز رحيب الصدر، تحملها غير متأثِّم من أخذها، كأنك، لا أبا لغيرك، إنما حزت لأهلك تراثك عن أبيك وأمك. سبحان الله! أفما تؤمن بالمعاد ولا تخاف سوء الحساب؟ أما تعلم أنك تأكل حراماً وتشرب حراماً؟ أوَما يعظم عليك وعندك أنك تستثمن الإماء وتنكح النساء بأموال اليتامى والأرامل والمجاهدين الذين أفاء الله عليهم البلاد؟ فاتق الله، وأدّ أموال القوم، فإنك والله إلاّ تفعل ذلك ثم أمكنني الله منك لأعذرنَّ إلى الله فيك حتى آخذ الحق وأردّه، وأقمع الظالم وأنصف المظلوم. والسلام».

ولست أعرف كلاماً أبلغ ـ في تصوير الحزن اللاذع، والأسى الممض، والغضب لحق الله وأموال المسلمين، في مرارة اليأس من الناس، والشك في وفائهم للصديق، وحفظهم للعهد، وأدائهم للأمانة، وقدرتهم على التزام الجادة ومعصية الهوى من هذا الكلام. "

طه حسين , علي وبنوه

27 " وأقبل رسل عليّ إلى الكوفة فوجدوا أميرها أبا موسى الأشعريّ راغباً عن الفتنة كارهاً للقتال مخذِّلاً للناس عن نصر إمامهم. وكانت حجته في هذا يسيرة، فإن الإمام لم يكن يريد أن يحارب عدوّاً من الكفار وإنما كان يوشك أن يحارب قوماً مثله يؤمنون مثله بالله ورسوله واليوم الآخر، فكره أن يقاتل المسلمون المسلمين. رأى ذلك لنفسه ثم لم يلبث أن رآه لأهل مصره جميعاً. وأيسر ما يأمر به الدين أن يحب الإنسان للناس ما يُحب لنفسه. فقد كان أبو موسى إذاً ناصحاً لنفسه ولأهل الكوفة حين نهاهم عن القتال وخذلهم عن نصر الإمام. ولكن أبا موسى كان قد بايع عليّاً وأخذ له بيعة أهل الكوفة، وهذه البيعة تفرض عليه نصر الإمام بنفسه وبأهل مصره، فإن تحرّج من ذلك استقال الإمام وترك عمله وانضم إلى أولئك المعتزلين فاجتنب من الفتنة ما يجتنبون. فأما أن يكون قد بايع عليّاً وقبل أن يكون له والياً ثم يأبى بعد ذلك أن ينفر مع أهل مصره حين استنفرهم الإمام فشيء لا يكاد يستقيم. ولذلك أرسل عليّ إليه يلومه ويعنفه ويعزله عن عمله، وأرسل والياً جديداً هو قرَظة بن كعْب الأنصاري، وأرسل الحسن بن عليّ وعمّار بن ياسر يستنفران الناس. ويروي بعض المؤرخين أن الأشْتر استأذن عليّاً في أن يلحق برسله إلى الكوفة، فأذن له. فلما بلغ المصرَ جمع نفراً من قومه أولى بأس وأغار بهم على قصر الإمارة، وأبو موسى يخطب الناس، فاحتاز القصرَ وبيت المال، واضطر أبا موسى إلى أن يعتزل العمل. ففعل وخرج من الكوفة حتى أتى مكة فأقام فيها مع المعتزلين. ونفر أهل الكوفة لنصر إمامهم، فأتوه حيث كان ينتظرهم بذي قار. "

طه حسين , علي وبنوه

28 " وكذلك عاش المغيرة هذه الأعوام العشرة مستريحاً مريحاً، أرضى السلطان وأرضى الرعية وأرضى نفسه، وإنْ لم يكن إرضاء نفسه يسيراً. فقد كان صاحب لذة ومسرفاً على نفسه وعلى الناس، كثير الزواج كثير الطلاق، لم يكن يتزوج واحدة واحدة ويطلق حين يجتمع له أربع زوجات وحين يريد أن يستزيد، وإنما كان كثيراً ما يطلق أربعاً ويتزوج أربعاً، حتى أسرف المؤرخون عليه بعد ذلك. فزعم المكثرون أنه تزوج ألف امرأة في حياته الطويلة. وزعم المقللون أنه تزوج مائة أو تسعاً وتسعين. وتوسط المعتدلون فزعموا أنه تزوج ثلثمائة. وليس من شك في أنه كان يؤدي إلى هؤلاء الزوجات مهوراً. وليس من شك كذلك في أنه كان يُرضي كثيراً منهن عن الطلاق السريع. وما أحسب أن ثروته الخاصة كانت تقوم له بهذا السرف الكثير.
فحياة المغيرة كما ترى كانت خليطاً من العمل الصالح والعمل السييء، وأمره وأمرها بعد ذلك إلى الله. ولكن المهم هو أن سياسته، حين ولي الكوفة لمعاوية، قد يسرت للشيعة أمرها تيسيراً، حتى كان أهل الكوفة يذكرونه بالخير كلما بلوا بعده قسوة الأمراء. "

طه حسين , علي وبنوه

29 " وكان أمر البصرة أشد من أمر الكوفة تعقيداً، فقد كان أهل هذا المصر بايعوا عليّاً واستقاموا لعامله عثمان بن حُنَيف. فلم يلبثوا إلاّ قليلاً حتى أظلَّهم الزبير وطلحة وعائشة ومن معهم من الجند. فأرسل إليهم عثمان بن حُنيف سفيرين من قبله، هما عمران بن حُصَين الخزاعي صاحب رسول الله وأبو الأسود الدؤلي، فلما أقبلا سألا القومَ: ماذا يريدون؟ فقالوا: نطلب بدم عثمان ونجعل الأمر شورى بين المسلمين يختارون لخلافتهم من يشاءون. وهمّ السفيران أن يحاورا القوم في هذا الأمر، فأبى القوم أن يسمعوا منهما فعادا إلى عثمان بن حُنيف ينبئانه أن القوم يريدون الحرب ولا يريدون غيرها، فتأهّب عثمان للقتال وخرج في أهل البصرة حتى واقف القوم، ثم تناظروا فلم يصلوا إلى خير. خطب طلحةُ والزبير فطلبا بدم عثمان وجَعْل الأمر شورى بين المسلمين. فردّ عليهما مِن أهل البصرة مَن كانت تأتيهم كتبُ طلحة بالتحريض على قتل عثمان. واختلف أهل البصرة وقال قوم: صَدَقا وتكلَّما بالصواب. وقال قوم: كذَبا ونطقا بغير الحق. وارتفعت الأصوات واشتد الخلاف، وجعل أهل البصرة يتسابُّون.
ثم جيء بعائشة على جملها فخطبت الناس وأبلغت في الخطابة. لسان زلق ومنطق عَذْب وحجة ظاهرة القوة. تقول: غضبنا لكم من سوط عثمان وعصاه أفلا نغضب لعثمان من السيف؟ ألا وإن خليفتكم قد قُتل مظلوماً، أنكرنا عليه أشياء وعاتبناه فيها فأعتب وتاب إلى الله، وماذا يطلب من المسلم إن أخطأ أكثر من أن يتوب إلى الله ويُعتب الناس. ولكن أعداءه سطوا عليه فقتلوه واستحلوا حُرماً ثلاثا: حُرْمة الدم وحرمة الشهر الحرام وحرمة البلد الحرام.

وقد استمع لها الناس في صمت عميق، ولكنها لم تكد تُتمّ حديثها حتى عادت الأصوات فارتفعت يصدّقها قوم ويكذبها قوم، وأولئك وهؤلاء يتسابُّون ويتضاربون بالنعال. ومع ذلك ثبت مع عثمان بن حُنيف جند قويّ من أهل البصرة فاقتتلوا قتالاً شديداً وكثرت فيهم الجراحات، ثم تحاجزوا وتداعوا إلى الهدنة حتى يقدم علي. وكتبوا بينهم كتاباً بذلك يُقِرّ عثمان بن حنيف على الإمرة ويترك له المَسْلحة وبيت المال. ويُبيح للزبير وطلحة وعائشة وممن معهم أن ينزلوا من البصرة حيث يشاءون.
وعاد أمر الناس إلى عافية ظاهرة. ومضى عثمان بن حُنيف على شأنه يصلي بالناس ويقسم المال ويضبط المصر. ولكن القوم الطارئين ائتمروا فيما بينهم فقال قائلهم: لئن انتظرنا مَقْدَم عليّ ليأخذن بأعناقنا. ثم أجمعوا على أن بيتوا عثمان بن حُنيف، وانتهزوا ليلة مظلمة شديدة الريح فعدوا على عثمان وهو يصلي بالناس العشاء الآخرة، فأخذوه ووكلوا به من ضربه ضرباً شديداً ونتف لحيته وشاربيه، ثم عدوا على بيت المال فقتلوا من حرسه أربعين رجلاً، وحبسوا عثمان بن حنيف وأسرفوا عليه في العذاب. هنالك غضب من أهل البصرة قوم أنكروا نقض الهدنة، وكرهوا هذا العدوان على الأمير، وكرهوا كذلك استئثار القوم ببيت المال، واجتنبوا المدينة وخرجوا إلى بعض ضاحيتها يريدون الحرب وحماية ما اتفق القوم على أنه حرام لا ينبغي أن يعرض له أحد بسوء. "

طه حسين , علي وبنوه

35 " ولم يستقبل المسلمون خلافة عليّ بمثل ما استقبلوا به خلافة عثمان مِن رضى النفوس وابتهاج القلوب واطمئنان الضمائر واتساع الأمل وانبساط الرجاء، وإنما استقبلوا خلافته في كثير من الوجوم والقلق والإشفاق واضطراب النفوس واختلاط الأمر، لا لأن عليّاً كان خليقاً أن يُثير في نفوسهم وقلوبهم شيئاً من هذا، بل لأن ظروف حياتهم قد اضطرتهم إلى هذا كله اضطراراً. فقد نهض عثمان بالأمر بعد خليفة قويّ شديد صعب المراس أرهقهم من أمرهم عُسْراً بما كان يسلك بهم إلى العدل من طريق وَعْرة خشنة لا يصبر على سلوكها إلاّ أولو العزم وأصحاب الجلد من الناس. وقد صوّرنا لك فيما مضى من هذا الكتاب شدة عمرَ على المسلمين عامة في ذات الله، وقسوته على قريش خاصة، يخاف عليهم الفتنة ويخاف منهم الفتنة أيضاً. فلما نهض عثمان بأمر الناس أعطاهم لِيناً بعد شدة وإسماحاً بعد عُنف وسعة بعد ضيق ورضاء بعد مشقّة وجهد؛ فزاد في أعطياتهم ويسّر لهم من أمرهم ما كان عسيراً حتى آثروه في أعوامه الأولى على عمر.
وأقبل عليّ بعد مقتل عثمان فلم يوسع للناس في العطاء ولم يمنحهم النوافل من المال ولم ييسر لهم أمورهم، وإنما استأنف فيهم سيرةَ عمر من حيث انقطعت، ومضى بهم في طريقه من حيث وقف. "

طه حسين , علي وبنوه

38 " وكان الناس بعد قتل عمر آمنين مطمئنين يشوب أمنهم واطمئنانهم شيءٌ من الحزن على هذا الإمام البرّ الذي اختُطف من بينهم غيلةً، لا عن ملأ من المهاجرين والأنصار، ولا عن ائتمار به من أهل الثغور والأمصار. فكان قتله عنيفاً يسيراً في وقت واحد. لم يصوّره أحد بأبلغ مما صوّره به عمرُ نفسُه حين تلقَّى الطعنة التي قتلتْه، ثم تولى وهو يتلو قول الله عز وجل: ﴿وكَانَ أمرُ الله قدَراً مقْدُوراً﴾.
كانت وفاة عمر إذاً قدراً من القدر لم تتألّب عليه جماعة ولم يأتمر به ملأ من المسلمين، وإنما اغتاله مغتالٌ غير ذي خطر فساق إليه موتاً لم يكن منه بُدّ.

فأما مقتل عثمان فكان نتيجة ثورة جامحة وفتنة شُبِّهت فيها على الناس أمورهم، إذ لم يكن أحدهم يعرف أكان مقبلاً أم مدبراً. وكان نتيجةَ خوف ملأ المدينة كلها أياماً طوالاً ثم انتشر منها في أقطار الأرض فاضطربت له النفوس أشد الاضطراب، وجهز العمَّال جنودهم لا ليرسلوها إلى حيث كان ينبغي أن تُرسَل من الثغور، ولكن ليرسلوها إلى عاصمة الدولة وقَلْبها ليردوا إليها الأمن ويجلوا عنها الخوف وليستنقذوا الخليفة المحصور. فلم تبلغ الجنود قلبَ الدولة ولا عاصمتها وإنما قُتل الخليفة قبل ذلك، فعاد الجند إلى امرأتهم وتركوا المدينة يملؤها الخوف والذعر ويسيطر عليها القلق والاضطراب. "

طه حسين , علي وبنوه