Home > Work > علي وبنوه
41 " وليس شيء من سياسة الناس يروِّج للآراء ويُغري الناس باتباعها كالاضطهاد الذي يعطف القلوب على الذين تُلم بهم المحن، وتصبّ عليهم الكوارث، وتُبسط عليهم يد السلطان، والذي يصرف القلوب عن هذا السلطان الذي يدفع إلى الظلم ويُمعن فيه، ويُرهق الناس من أمرهم عسراً. "
― طه حسين , علي وبنوه
42 " كان الناس يعرفون هذا كله ويقدرون أن الأمور لن تستقيم بين الخليفة الهاشمي والأمير الأموي في يسر ولين. وكانوا كذلك يعرفون أن قريشاً قد صَرفت الخلافة عن بني هاشم بعد وفاة النبي إيثاراً للعافية وكراهة أن تجتمع النبوة والخلافة لهذا البطن من بطون قريش. وكانوا يرون أن الله قد آثر بني هاشم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم فاختصها بخير كثير، وأن بني هاشم ينبغي لهم أن يقنعوا بما آثرهم الله به من هذا الخير الضخم والفضل العظيم. "
43 " ومهما يكن من اختلاف المؤرخين فليس من شك في أن عليّاً لم يكن يستطيع أن يستبقى عمال عثمان، كان دينه يمنعه من ذلك لأنه طالما لام عثمان على تولية هؤلاء العمال، وطالما أنكر على هؤلاء العمال سيرتهم في الناس، فلم يكن يستطع أن يطالب بعزلهم أمس ويثبتهم على عملهم اليوم. وتمنعه السياسة من هذا، فهؤلاء الثائرون الذين شبّوا نار الفتنة وقتلوا عثمان لم يكونوا يكتفون بتغيير الخليفة، وإنما كانوا يريدون تغيير السياسة كلها وتغيير العمال قبل كل شيء. ولعلهم لم يكونوا يستثنون من هؤلاء العمال إلاّ أبا موسى الأشعري الذي اختاره أهل الكوفة عاملاً وأقرّ عثمان اختيارهم إياه مبتغياً بذلك استصلاحهم وصدّهم عن الفتنة. "
44 " ما أكثر الذين كانوا يرحلون من العراق ومن الحجاز ليلحقوا بمعاوية، مؤثرين دنياه على دين عليّ. فلم يكن عليّ يعرض لهم، ولا يستكرههم على البقاء معه، ولا يصدّهم عن اللحاق بالشام. كان يرى أنهم أحرارا يتخذون الدار التي تلائمهم، فمن أحب الهدى والحق أقام معه، ومن رضى الضلال والباطل لحق بمعاوية.وقد كتب عاملُه على المدينة سهلُ بن حُنيف يذكر أن كثيراً من أهلها يتسللون إلى الشام. فكتب إليه عليّ يُعزِّيه عن هؤلاء الناس وينهاه عن أن يعرض لهم أو يُكرههم على البقاء في طاعته.وكانت هذه سيرته مع الخوارج أيضاً، يُعطيهم نصيبهم من الفيء ولا يَعرض لهم بمكروه ما أقاموا معه، ولا يردّ أحداً منهم عن الخروج إن هَمّ به، ولا يأمر أحداً من عمَّاله بالتعرض لهم في طريقهم. فهم أحرار في دار الإسلام يتبوءون منها حيث يشاءون، بشرط ألا يُفسدوا في الأرض أو يعتدوا على الناس. فإن فعلوا أجرى فيهم حكم الله في غير هَوادة ولا لين. وربما أنذره أحدهم بأنه لن يشهد معه الصلاة ولن يُذعن لسلطانه، كما فعل الخِرِّيت بن راشد فيما مضى من خبره، فلم يبطش به ولم يعرض له وخلَّى بينه وبين حُريته. فلما خرج مع أصحابه لم يَحُل بينهم وبين الخروج. فلما أفسدوا في الأرض أرسل إليهم من أنصف منهم.كان إذاً يعرف للناس حقهم في الحرية الواسعة إلى أبعد آماد السعة، لا يستكره الناس على طاعة ولا يُرغمهم على ما لا يحبون، وإنما يشتد عليهم حين يعصون الله أو يخالفون عن أمره أو يفسدون في الأرض. "
45 " كان يرى أن حرب الناكثين والقاسطين والمارقين حقّ عليه وعلى المسلمين، كجهاد العدو من المشركين وأهل الكتاب. ولكنه لم يكن يفرض ذلك عليهم فرضاً ولا يدفعهم إليه بقوة السلطان، وإنما يندبهم له؛ فمن استجاب منهم رضى عنه وأثنى عليه، ومن قعد منهم وعظه ونصحه وحرّضه وأبلغ في الوعظ والنصح والتحريض. وهو لم يُكره أحداً على حرب الجمَل ولا على حرب صفِّين ولا على حرب الخوارج، وإنما نهض لهذه الحروب كلها بمن انتدب معه على بصيرة من أمره ومعرفة لحقه. ولو شاء لجنَّد الناس تجنيداً، ولكن هذا النحو من الخدمة العسكرية التي يُجبر الناس عليها لم يكن قد عُرف بعد. ولو شاء لرغب الناس بالمال في هذه الحرب حين نكلوا عنها، ولكنه لم يفعل هذا أيضاً. كره أن يشتري نصرة أصحابه له بالمال وأراد أن ينصروه عن بصيرة وإيمان. بل هو قد فعل أكثر من هذا، فخاض بأصحابه غمرات هذه الحروب، ثم لم يقسم فيهم غنيمةً إلا ما كان يُجلب به العدوّ من خيل أو سلاح. وقد ضاق أصحابه بذلك وقال قائلهم كما رأيت فيما مضى: أباح لنا دماء العدو ولم يُبح لنا أموالهم.وكان رأيه في هذا أن حرب المسلم للمسلم غير حرب المسلم للكافر، لا ينبغي أن يراد بحرب المسلم إلاّ اضطراره على أن يفيء إلى أمر الله. فإن فعل ذلك عصم نفسه وماله. ولا ينبغي أن يُسترقّ ولا أن يُصبح ماله غنيمة. ولا كذلك حرب غير المسلمين.فليس غريباً أن يثَّاقل أصحابه عن حرب أهل الشام بعد ما جرّبوا من سيرته فيهم، فهي حرب تكلفهم عناء وتعرضهم للموت ثم لا تغني عنهم شيئاً، لأنها لا تتيح لهم الغنيمة. ونحن نعلم أن العربيّ يفكر في الغنيمة كلما فكر في الحرب ولأمر ما حرّض الله المسلمين على الجهاد مع نبيه فقال: ﴿وعَدَكُم الله مَغَانِم كَثِيرةً تَأْخُذُونَهَا﴾ الآية.ففي هذين الأمرين: الخضوع لسلطانه، وحرب عدوه من المسلمين، كان عليّ يترك أوسع الحريّة وأسمحها لأصحابه. "
46 " كان الناس يعرفون هذا كله ويقدرون أن الأمور لن تستقيم بين الخليفة الهاشمي والأمير الأموي في يسر ولين. وكانوا كذلك يعرفون أن قريشاً قد صَرفت الخلافة عن بني هاشم بعد وفاة النبي إيثاراً للعافية وكراهة أن تجتمع النبوة والخلافة لهذا البطن من بطون قريش. وكانوا يرون أن الله قد آثر بني هاشم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم فاختصها بخير كثير، وأن بني هاشم ينبغي لهم أن يقنعوا بما آثرهم الله به من هذا الخير الضخم والفضل العظيم. فكان الناس إذاً لا يشفقون من فساد الأمر بين عليّ ومعاوية فحسب وإنما يشفقون من فساد الأمر بين عليّ وبني هاشم من جهة وسائر قريش من جهة أخرى. فلم يكونوا إذاً يستقبلون حياةً قوامها الأمن والعافية والسعة، وإنما كانوا يستقبلون حياة ملؤها القلق والخوف، ويشفقون أن تنتهي بهم آخر الأمر إلى ضيق أي ضيق وتورّطهم في شر عظيم. "
47 " . ولكن عليّاً لم يكن صاحب مُسالمة في الحق، وكان يؤثر الصراحة في القول والعمل على التربّص والكيد. "
48 " ليس من شك في أن عليّاً قد أخفق في بسط خلافته على أقطار الأرض الإسلامية، ثم هو لم يُخفق وحده وإنما أخفق معه نظام الخلافة كلُّه. وظهر أن هذه الدولة الجديدة التي كان يُرْجى أن تكون نموذجاً للون جديد من ألوان الحكم والسياسة والنظام لم تستطع آخر الأمر إلاّ أن تسلك طريق الدول من قبلها. فيقوم الحكم فيها على مثْل ما كان يقوم عليه من قبل من الأثرة والاستعلاء ونظام الطبقات، الذي تُستذل فيه الكثرة الضخمة، لا مِن شعب واحد بل من شعوب كثيرة، لقلة قليلة من الناس، عسى أن تكون من شعب بعينه بين هذه الشعوب، وهو الشعب الذي استقر أمر الحكم فيه. بل لم يُخفق عليّ ونظام الخلافة وحدهما، وإنما أخفقت معهما الثورة التي قامت أيام عثمان لتحفظ، فيما كان أصحابها يقولون، على الخلافة الإسلامية إسماحها وصلاحها ونقاءها من شوائب الأثرة والعبث والطغيان والفساد. "
49 " ومع ذلك فقد كان خليفتهم الجديد أجدر الناس بأن يملأ قلوبهم طمأنينة وضمائرهم رضى ونفوسهم أملاً. فهو ابن عم النبيّ وأسبق الناس إلى الإسلام بعد خديجة، وأول من صلى مع النبي من الرجال، وهو ربيب النبي قبل أن يُظهر دعوته ويصدع بأمر الله. أحسّ النبيّ أن أبا طالب يلقى ضيقاً في حياته فسعى في أعمامه ليعينوا الشيخ على النهوض بثقل أبنائه، فاحتملوا عنه أكثر أبنائه وتركوا له عَقيلاً، كما أحب، وأخذ النبيّ عليّاً فكفله وقام على تنشئته وتربيته. فلما آثره الله بالنبوة كان عليّ في كنفه لم يجاوز العاشرة من عمره إلاّ قليلاً. فنستطيع أن نقول إنه نشأ مع الإسلام. وكان النبي يحبه أشد الحب ويؤثره أعظم الإيثار، استخلفه حين هاجر على ما كان عنده من ودائع حتى ردّها إلى أصحابها، وأمره فنام في مضجعه ليلة ائتمرت قريش بقتله، ثم هاجر حتى لحق بالنبيّ في المدينة فآخى النبي بينه وبين نفسه ثم زوّجه ابنته فاطمة، ثم شهد مع النبيّ مَشاهده كلها، وكان صاحب رايته في أيام البأس. وقال النبي يوم خيبر: «لأعطينّ الراية غداً رجلاً يحب الله ورسولَه ويُحبه الله ورسوله». فلما أصبح دفع الراية إلى عليّ. وقال النبي له حين استخلفه على المدينة يوم سار إلى غزوة تَبوك: أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبيّ بعدي. وقال للمسلمين في طريقه إلى حجة الوداع: «من كنت مولاه فعلي مولاه. اللهم وال من والاه وعاد من عاداه». وكان عمر رحمه الله يعرف لعليّ علمه وفقهه يفزع إليه في كل ما يعرض له من مشكلات الحكم. وقال حين أوصى بالشورى: «لو ولّوها الأجلح لحملهم على الجادة» إلى فضائل كثيرة يعرفها له أصحاب النبيّ على اختلافهم، ويعرفها له خيار المسلمين من التابعين، ويؤمن له بها أهل السنة كما يؤمن له بها شيعته.ويقول «إن عليّاً أقضانا». "
50 " فأولئك الثائرون إنما ثاروا، فيما كانوا يزعمون، لأن عثمان لم يُحسن سياسة أموالهم ومرافقهم. عجز عن هذه السياسة، على أحسن تقدير، فركب بنو أمية رقاب الناس، وعبث العمّال بالولايات والفيء، وأسرف الخليفة في بيت المال يؤثر به ذوي رحمه والمقربين إليه من سائر الناس. فهم كانوا يريدون أن يردّوا أمر الخلافة إلى مثل ما كان عليه أيام الشيخيْن بحيث يتحقَّق العدل وتُمحى الأثرة، ولا توضع أموال الناس إلاّ في مواضعها، ولا تُنفق إلاّ على مرافقهم، ولا تُؤخذ إلا بحقها. ولكن زعماءهم وقادتهم قُتلوا في سبيل هذه الثورة قبل أن يُتموا تثبيتها: قُتل حَكيم بن جَبَلة في البصرة قبل أن تقع موقعة الجمل. وقُتل زَميله البصري حٌرْقوص بن زُهير في النَّهروان، وقتل محمد بن أبي بكر وكنانة بن بِشْر في مصر، ومحمد بن أبي حُذيفة في الشام. ومات الأشتر مَسموماً في طريقه إلى مصر. وقُتل عمَّار بن ياسر بصفِّين. "