Home > Work > عبقرية الإمام علي
41 " ويصح أن يقال: إن عليًّا — رضي الله عنه — أبو علم الكلام في الإسلام؛ لأن المتكلمين أقاموا مذاهبهم على أساسه "
― عباس محمود العقاد , عبقرية الإمام علي
42 " فعصر أبي بكر كان هو العصر الذي نشأت فيه الدولة الإسلامية، وعصر عمر كان هو العصر الذي تمَّ فيه إنشاؤها … وعصر عثمان كان هو العصر الذي تكون فيه المجتمع الإسلامي بعد نشأة الدولة الجديدة، فبرز فيه نظام جديد على أساس الثروة المجلوبة من الأقطار المفتوحة، وعلى أساس الولايات التي تولاها بعض الطبقات المرشحة للرئاسة من العلية وأشباهها … أما عصر علي فكان عصرًا عجيبًا بين ما تقدمه وجاء في أعقابه، أو هو لم يكن عجيبًا؛ لأنه جرى على النحو الذي ينبغي أن يجري عليه، فلم يثبت كل الثبوت ولم يضطرب كل الاضطراب؛ لأنه كان بناءً جديدًا في سبيل التمام، ولم يكن بناءً متداعيًا فكله هدم واندثار، ولا بناءً قائمًا مفروغًا منه فكله رسوخ واستقرار. "
43 " وقد كان أبو بكر وعمر يمسكان كبار الصحابة بالحجاز، ويحذران منهم أن ينطلقوا في الأرض فيقبلوا على الدنيا ويشجر بينهم من النزاع ما يشجر بين طلابها، ثم ينصدع شمل الأمة بالتشيع لهم وعليهم والتفرق بين أنصارهم وأعدائهم، "
44 " كانت الشام بمعنى من المعاني أرضًا أموية في عهد الجاهلية، فلجأ إليها أمية جد الأمويين حين غلبه هاشم على الزعامة، وقصد إليها أبناؤه متجرين أو مهاجرين إلى ما بعد قيام الدعوة الإسلامية. ثم قامت الدعوة الإسلامية، فكان من نصيب يزيد بن أبي سفيان أن يتولى الإمارة والقيادة على الشام من قبل الخليفة أبي بكر الصديق، وخلفه أخوه معاوية من قبل الخليفة عمر، فلم يزل مقيمًا على إمارتها بضع عشرة سنة إلى مبايعة علي بالخلافة بعد مقتل عثمان، فاتسع له من فسحة الوقت وفسحة الرخاء مجال ممهد لتأسيس السلطان الأموي الذي لا ينازعه منازع من حوله، "
45 " فلا دعاة الدنيا راضون مطيعون، ولا دعاة الدين راضون مطيعون، ولا الفقراء والجهلاء راضون مطيعون، وما منهم إلا من هو قلق متوفز لا يسكن به سكن ولا يدوم به قرار. وكل أولئك كانوا في حصة علي من الدولة الإسلامية، ولم يكن لمعاوية في حصته شاجرة فتنة من هذه الشواجر، بل كان له في موضع كل واحدةٍ منها دعامة تمكين وتأييد. "
46 " كان عليٌّ نموذج أصحابه الأعلى، وكان معاوية نموذج أصحابه الأعلى، وكانا لأجل ذلك في موضع رشحتهما له الحوادث قسرًا قبل أن يرشحا له بإرادة مريد. وما نحن بقادرين على وزن الرجلين، ولا على المقابلة بينهما في الرأي والعمل ما لم نستحضر هذه الحقيقة أبدًا، وما لم نذكر أبدًا أن أحدهما كان يعمل والحوادث حرب عليه، وأن الآخر كان يعمل والحوادث عدة في يديه! "
47 " فالحقيقة التي لا يطول فيها الريب، أن عليًّا — رضي الله عنه — لم يكن أقدر على اجتناب هذا المصير من معاوية أو من عثمان نفسه، لو شاء عثمان أن يستمع إلى بعض الناصحين إليه. "
48 " فلم تكن المسألة خلافًا بين عليٍّ ومعاوية على شيء واحد، ينحسم فيه النزاع بانتصار هذا أو ذاك. ولكنها كانت خلافًا بين نظامين متقابلين وعالمين متنافسين: أحدهما يتمرد ولا يستقر، والآخر يقبل الحكومة كما استجدت، ويميل فيها إلى البقاء والاستقرار … أو هي كانت صراعًا بين الخلافة الدينية كما تمثلت في عليِّ بن أبي طالب، والدولة الدنيوية كما تمثلت في معاوية بن أبي سفيان. "
49 " وقد كان الموقف بين الخلافة والملك ملتبسًا متشابكًا في عهد عثمان: كان نصف ملك ونصف خلافة، أو كان نصف زعامة دينية ونصف إمارة دنيوية "
50 " وقد نظر النبي — عليه السلام — بعين الغيب إلى هذا المصير فقال: «الخلافة ثلاثون عامًا ثم يكون بعد ذلك الملك» … وأنبأ بانقسام الفرق وتشعب الأهواء، وكأنما كان ينظر إلى ذلك بعينيه — صلوات الله عليه — "
51 " واعلم أنك من الطلقاء٢ الذين لا تحل لهم الخلافة، ولا يدخلون في الشورى وقد بعثت إليك وإلى من قبلك جرير بن عبد الله، وهو من أهل الإيمان والهجرة … فبايعه، ولا قوة إلا بالله. "
52 " فعلم الخوارج أن صاحبهم ليس بندٍّ لعليٍّ في مجال نقاش، فكفُّوه عن الكلام كأنهم آمنوا بصدق عليٍّ في حجته وقصده، لولا أنهم قوم قهرتهم لجاجة العناد كما تقهر أمثالهم من المتهوسين، الذين يجدون في المضي مع العناد لذة يستمرئونها من الحق والمعرفة … فمردوا على الشقاق، وأصروا على تكفير علي وأصحابه، وأن يعاملوهم في الحرب والسلم معاملة الكفار "
53 " وبقيت في كنانة الأقدار مصادفة من هذه المصادفات التي يخيل إليك وأنت تتعقبها، أنها تجمعت منذ الأبد ليبوء عليٌّ بنقائض الموقف كله، ويظفر خصومه بتوفيقات الموقف كله … فشاءت هذه المصادفة الأخيرة أن يتفق ثلاثة على قتل ثلاثة، فيذهب هو وحده ضحية هذه المكيدة العاجلة، ويفلت زميلاه فيها: معاوية، وعمرو بن العاص. "
54 " قال ابن أبي الحديد: «ومن العلوم، علم الطريقة والحقيقة وأحوال التصوف، وقد عرفت أن أرباب هذا الفن في جميع بلاد الإسلام إليه ينتهون وعنده يقفون، وقد صرح بذلك الشبلي والجنيد وسري وأبو يزيد البسطامي وأبو محفوظ معروف الكرخي وغيرهم، ويكفيك دلالة على ذلك: الخرقة التي هي شعارهم إلى اليوم، وكونهم يسندونها بإسنادٍ متصل إليه — عليه السلام…» "
55 " وأوصى ابنه الحسن وقد بلغ الستين فقال: «… اعلم يا بني أن أحبَّ ما أنت آخذٌ به إليَّ من وصيتي تقوى الله، والاقتصار على ما فرضه الله عليك، والأخذ بما مضى عليه الأولون من آبائك، والصالحون من أهل بيتك، فإنهم لم يدعوا أن نظروا إلى أنفسهم كما أنت ناظر، وفكروا كما أنت مفكر… فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا، فليكن طلبك ذلك بتفهم وتعلم، لا بتورط الشبهات، وعُلَق الخصومات، وابتدئ قبل نظرك في ذلك بالاستعانة بإلهك، والرغبة إليه في توفيقك، وترك كل شائبة أولجتك في شبهةٍ أو أسلمتك إلى ضلالة، فإن أيقنت أن قد صفا قلبك، وتم رأيك فاجتمع، وكان همك في ذلك همًّا واحدًا، فانظر فيما فسَّرت لك…» "
56 " «ليحبني أقوام حتى يدخلوا النار في حبي، ويبغضني أقوام حتى يدخلوا النار في بغضي»… أو حين قال: «يهلك فيَّ رجلان: محبٌّ مفرط بما ليس في، ومبغض يحمله شنآني على أن يبهتني.» "
57 " معاوية لم يعمل في الشام عمل وال يظل واليًا طول حياته، ويقنع بهذا النصيب ثم لا يتطاول إلى ما وراءه، ولكنه عمل فيها عمل صاحب الدولة التي يؤسسها، ويدعمها له ولأبنائه من بعده "
58 " «ولكنه لا رأي لمن لا يطاع.» "
59 " فمن تورعه عن البغي، مع قوته البالغة وشجاعته النادرة، أنه لم يبدأ أحدًا قط بقتال وله مندوحة عنه، وكان يقول لابنه الحسن: «لا تدعوَنَّ إلى مبارزة، فإن دعيت إليها فأجب، فإن الداعي إليها باغٍ والباغي مصروع»… وعلم أن جنود الخوارج يفارقون عسكره ليحاربوه، وقيل له: إنهم خارجون عليك فبادرهم قبل أن يبادروك، فقال: «لا أقاتلهم حتى يقاتلوني، وسيفعلون…!» وكذلك فعل قبل وقعة الجمل، وقبل وقعة صِفين، وقبل كل وقعة صغرت أو كبرت ووضح فيها عداء العدو أو غمض: يدعوهم إلى السلم وينهى رجاله عن المبادأة بالشر، فما رفع يده بالسيف قط إلا وقد بسطها قبل ذلك للسلام. "
60 " وكان أبدًا عند قوله: «علامة الإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرك، على الكذب حيث ينفعك، وألا يكون في حديثك فضل على علمك، وأن تتقي الله في حديث غيرك»… "