Home > Work > السقا مات

السقا مات QUOTES

6 " ولم تكد العربة تصل إلى بابها حتى أمر "شوشة" ابنه بالوقوف في الخارج.
ووقف "سيد أمام الباب، وهو يهز رأسه أسفا
أهكذا قد حرم عليه الدخول إلى الجنة .. ولما؟ .. من أجل جوافاية لا هنا ولا هناك؟
لا . لا . يجب أن يعطيه أبوه فرصة أخرى. هذا ظلم
وعندما انتهى أبوه من تفريغ القرب في الداخل وخرج يدفع العربة من الباب الكبير .. رفع إليه "سيد" رأسه متسائلا:
- لماذا لم تدعني أدخل معك؟
- لأنك لا تؤتمن على الدخول.
- كيف؟
- ألا تدري كيف ؟!
-لا ...
- لأنك سرقت الجوافة من الشجرة، وأول رأسمال السقا .. هي الأمانة.
- ولكن ما فعلته ليست سرقة.
- ما هي السرقة إذا؟
-هي أن تأخذ ما للمحتاج لغير المحتاج
- ما شاء الله .. من قال لك هذا؟
-شيء بالعقل.
-السرقة هي أن تأخذ ما ليس لك.
- من قال هذا؟
-ربنا.
-لا أظن ربنا يقول هذا!
-استغفر
-أستغفر الله العظيم.. ولكني مع ذلك أصر على أنه لا يقول هذا.
- ماذا يقول إذا؟
- أعتقد أن أخذ ما للغير إذا كنا في حاجة إليه أكثر منه لا يعتبر سرقة .. إنها مساعدة لله في توزيع نعمه .. وإقرار عدالته .. فنحن في الواقع لا نأخذ ما للغير، ولكننا نأخذ ما لله الفائض عن حاجة الغير، إنها معاونة لله لا أكثر ولا أقل .. أفيغضب ذلك الله؟
- الله ليس في حاجة إلى معاونة أحد .. وهو أدرى بتوزيع ماله على عبيده، ونحن أعجز من أن نحكم على حاجات سوانا .. إن فينا من الأنانية ما يعمينا إلا عن حاجتنا .. فما من بشر يحس بحاجة غيره .. وما من بشر يحس بالفائض عن حاجته .. فهو أبدا في حاجة، وغيره في غير حاجة.
- على أية حال لا أظن أهل السراية في حاجة ماسة إلى الجوافاية التي كنت سآكلها.
- ولا أنت أيضا في حاجة ماسة إليها، ولكن المسألة أن الله وهبها لهم ولم يهبها لك .. ولكل ما وهبه الله .. وواجبنا في هذه الحياة هو أن نخلص في عملنا، ونتقبل بعين قريرة نتيجة هذا العمل.
- وهذا ما كنت أنويه فعلا، لقد أخلصت في الصعود على الشجرة، وأؤكد لك أنه لم يكن بالعمل الهين، بل كان يحتاج إلى جهد كبير، وكنت أنوي قبول الجوافاية .. نتيجة هذا العمل .. بعين قريرة، ولكن لم يحدث قسمة.
ولم يستطع الأب العبوس أن يمنع ضحكته وقال لابنه:
- نتيجة هذا العمل .. كان يجب أن تكون دق عنقك فهذا ليس عملك الطبيعي، بل هو عمل شرشر خرجت به عن جادة الصواب. "

يوسف السباعي , السقا مات

12 " ثم لاح النعش.. نعش قد لف في الحرير الأبيض، دلالة على أن صاحبته سيدة شابة.. فلم يكد تقع عليه عينا "شوشة" حتى أصابه ما أصابه عندما طرقت قدمه الجمجمة من أول جولة.. فقد انهار تماما، واندفع في نوبة بكاء عنيف.
وكان التأثير المباشر لنوبة البكاء التي أصابته، نوبة ضحك أصابت بقية الزملاء، فقد كانت نظرتهم إليه، وهو مندفع في البكاء نظرة كل محترف متمكن في مهنته إلى مستجد غشيم يبدأ المهنة لأول مرة فيندفع في حماقة، يسببها جهله، وقلة درايته، وضعف احتماله.
وقال له "هلال" مهدئا:
-كفاية بقي يا سي شوشة.. خلى شوية للجنازة الجايه لسه قدامك مناحات كتير.. أنت بالطريقة دي حاتخلص في جنازتين تلاته.. وبعدين حاتدور أنت على اللي يعيط عليك.. اتقل بقي يا جدع اتقل .. بلاش شغل هبل، كفاية تبص في الأرض وتعمل نفسك زعلان.
وقال الشيخ سيد متسائلا:
-أنت يا جدع بتعيط على إيه، على الميت، ولا على المشوار اللي حاترقعه؟
وأجاب هلال: -الميت.
-ميت؟ ليه؟ تعيط عليه ليه؟ جعان، والا عطشان، والا عريان، والا بردان.. والا تعبان.. والا موجوع. ما هو نايم أربعة وعشرين قيراط.. ده هو اللي حقه يعيط علينا. طب على الطلاق بالتلاته يوم ما أرقد الرقدة دي.. ألا بص من الخشبة واطلع لساني للمغفلين اللي بيعيطوا عليه. اّل بيعيط على الميت اّل ... ليه هي الحكاية اتقلبت؟ فيه ماشي بيعيط على راكب؟ فيه محتاج يعيط على اللي مش محتاج؟.. فيه متألم يعيط على اللي ما يتألمش؟ يا ناس اعقلوا. ما تضحكوش علينا الأموات.
وبدأت الجنازة في السير واتخذ شوشة مكانه في طابور الأفندية.. ووصلوا إلى المدافن وواروا الميت التراب.. وعاد شوشة مع الجمع إلى المقهى فأبدل ثيابه وقبض الأجر ثم عاد إلى البيت مطرق الرأس، أحمر العينين وارم الأنف.
لقد انتهت الجولة الثانية بهزيمة أخرى. "

يوسف السباعي , السقا مات

13 " أبوك السقا مات
يمشي في الجنازات
ويوصل الأموات
أبوك السقا مات.
وفوجئ سيد بأقوال الصبية مفاجأة شديدة. فقدت مست منه موضعا شديد الحساسية، ونكأت فيه أوجع الجروح.
لم يأخذ سيد كلام الصبية على أنه لهو ومزاح.. وقول طائش ماجن.. بل انطبعت في ذهنه في لمح البرق صورة أبيه يحمل الصرة، ثم صورته وهو يرتدى الحلة المشؤومة ويسير أمام النعوش ويصاحب الموتى ويجول بين القبور ثم صورته وهو مستلق، كما استلقى شحاته من قبل.. بلا حراك.. ولا أمل في حراك.. بل جثة هالكة مفقودة، لا تلبث حتى توضح في صندوق وتحمل على الأعناق ثم تغيب في باطن الأرض.
ومن؟ من الذي يحدث له كل هذا؟
أبوه الحنون الطيب الحازم المرهوب القوى.. الذي حطم الرجل الفحل وأطاح به إلى الإسعاف!
أبوه !! نموذج الأحياء، بل هو نفسه الحياة، وبغيره لا تكون حياة .. يضيع منه كما تضيع البلية التافهة أو الكرة القديمة. يضيع منه أبدا. يضيع نهائيا. بلا أي أمل في عودة.
أبوه نفسه، يغيب في باطن الأرض، ويدفن كالقمامة والديدان! لعنة الله عليهم أجمعين.
إنه لا يأبه للشتائم والسخريات والمزح.. بل هو نفسه أطول الصبية لسانا واقذعهم سبابا، ولكن السباب شئء، وهذه الأقوال المروعة شيء آخر.
لو أنهم قالوا له "يلعن أبوك" أو حتى "يا ابن الكلب" أو أنهم سخروا منه بأقسى ما يشاءون من الهزء والسخرية، لاستطاع الاحتمال.. فهو قد تعود منهم الشتائم والسخرية، وهو أيضا البادي بالشتيمة والضارب مضروب، والشاتم مشتوم.
أما أن يقولوا على أبيه مثل هذا القول المروع، الذي يبدو كأن له صلة كبيرة بالواقع، وأنه محتمل الحدوث.. فهذا ما لم يستطع عليه صبرا. "

يوسف السباعي , السقا مات

15 " إني لأذكرها يوم ذاك وقد هبطت من الطابق العلوى قبيل الشروق وأنا أملأ حوض النافورة، وهي تبتسم في دلال وتسألني أن أسقى شجرة التمر حنة.
ولم أكن مسؤولا بالطبع عن سقيا الشجر فقد كان ذلك من عمل البستاني وكان عملي مقصورا على حمل المياه وإفراغها في الحوض ثم ملء الأزيار والصفائح والطشوت وغيرها من خزانات المياه الموجودة بالدار.
ولكن لم أستطع حينذاك أن أرفض طلبها لا سيما وأنها أنأتنى أنها قد غرستها بيدها وأنها تخشى أن يهملها البستاني فتموت وهي عزيزة عليها حبيبة إلى نفسها.. وضحكت ووعدتها أن أداوم على سقيها يوما بعد يوم، وأن تجعل مسؤوليتها في عنقي ما دامت تعتز بها كل هذا الاعتزاز.
وكنت أعرفها من قبل فقد سبق لي أن رايتها ضمت ثلة الخادمات اللاتي تكتظ بهن السراي، وكنت أستطيع بسهولة تمييزها من بيت عدة الوجوه التي تتوالى على رائحة غادية.
ولكنها كانت المرة الأولى أن أبادلها الحديث، وأن تكل إلى بعمل خاص بها وتخاطبني كما يخاطب المرء صديقه وتضع في عنقي شيئا عزيزا أتولى سقياه والسهر على حياته.
ومن ذلك الحين بدأت أشعر بشيء يربطني بها ويشدني إليها واعتبرت سقيا شجرتها العزيزة واجبى الأول في الحياة.
كنت أراها كل صباح إما في المطبخ حين أصعد لملء الأواني وإما في الحديقة حين تهبط لتقانى أو لتطمئن على شجرتها.
وكان كل يوم يمر يجعلني أشعر أننا لسنا غريبين أحدنا عن الآخر، وأنه لا بد أن يكون بيننا سابق عشرة أو قديم معرفة...
كانت صبوحة مشرقة الوجه، دائما البسمة، وكان إشراقها سريع الانعكاس في نفسي وبسمتها سريعة التردد بين جوانحي.. فكنت لا أكاد أراها حتى تشرق منى النفس ويضحك القلب وتصفق الروح.
ولشد ما سرني أن اسمعها ذات صباح تسألني عن شجرة التمر حنة بقولها "شجرتنا"، فقد أحسست أنه قد بات بيننا شيء مشترك، وأن لنا مصلحة واحدة.. تافهة مهما كانت.. فهي تربط بين أحدنا وصاحبه.
وبدأ بيننا دور التعبير عن المشاعر بالهدايا.. أحملها إليها وتحملها إلى خلسة، وبعيدا عن الأعين.. أنا أقتصد من دريهماتى لأبتاع لها منديلا للرأس أو قطعة رخيصة من الحلى.. حلقا أو خاتما أو أسورة، وهي تقتصد من طعامها لتحمل إلى بعضه.. أو تقتصد من مصروفها أو تحتجز من أجرها الذي تعول بها أمها دريهمات لتبتاع لي منديلا أو جوربا.
وكمل سقيت الشجرة فترعرعت، سقى الله حبنا فترعرع، وباتت الحياة عندي تنحصر في تلك الهنيهات التي أحمل فيها الماء إلى السراي الكبيرة، والتي ألقى فيها آمنة نتبادل النظرات أو التحيات أو الكلمات. "

يوسف السباعي , السقا مات

18 " كل ما على الأرض أبقي من الحي.. وبقايا الحي.. ومخلفات الحي.
كم اختال عليها من قبلنا كل مختال فخور.. وكم مشى على ظهرها مرحا كل منتفخ الأوداج مغرور.. وكم تثنت عليها الغيد وتماليت الحور.. فأين ذهب المختال وراح المغرور.. وأين صارت الغيد واّلت الحور!
ذهبوا كلهم.. كانوا يملئون الأرض ضجة وحركة.. وكانوا هم الأحياء وغيرهم عدم.. وفي غمضة عين صاروا هم العدم وغيرهم الحياة.
كل جامد في الأرض أبقي من الحي.
هذه الصخرة الجامدة أبقي على الأرض من هذا الرأس الحي المفكر..هذا الحجر الجامد الصلد أثبت في موضعه من صدر الحسناء المكتنز بالحياة.. الصائر إلى ضمور المنتهى إلى فناء. هذا الينبوع البارد الجارى فى الوهاد أكثر استمرارا فى التدفق من الدماء الحارة الجارية في العروق الصائرة إلى جفاف وجمود.
يا للحي التعس المسكين.. حتى قبوره ومخلفاته إلى الزوال مصيرها، وإلى الفناء ماّلها ومنتهاها.
"صاح هذي قبورنا تملأ الرحب فأين القبور من عهد عاد"
ما أوهى خيط الحياة.. وأضعف مادة الأحياء.
حي واحد.. هو الباقي القوى.. هو "الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء. "

يوسف السباعي , السقا مات