Home > Author > طه حسين

طه حسين QUOTES

166 " وليس من اليسير أن نقطع برأي في عدد الجيشين اللذين التقيا بصَفّين واقتتلا قتالاً طويلاً منكراً لم يُر مثله قط في الإسلام، أي لم يُرَ مثله قط بين المسلمين. فقوم يبلغون بجيش عليّ مئة ألف، ويبلغون بجيش معاوية سبعين ألفاً. وقوم ينزلون بهذين الرقمين إلى أقل من ذلك. وليس من اليسير كذلك أن نحصى عدد القتلى من أولئك وهؤلاء، وقد زعم قوم أن القتلى من أهل الشام بلغوا خمسة وأربعين ألفاً، وأن القتلى من أهل العراق بلغوا خمسة وعشرين ألفاً.
وليس المهم الآن أن نحصى الجيشين إحصاءً دقيقاً، ولا أن نحصى القتلى منهما إحصاءً دقيقاً وإنما المهم هو أن نلاحظ أن الخصمين قد تأهَّبا كأحسن ما تكون الأهبة وأقواها، واضطرهما ذلك إلى أن يكشفا ثغورهما المحاذية للعدو قليلاً أو كثيراً. وآية ذلك أن الروم طمعوا في الشام وهمّوا بغزوها، لولا أن معاوية وادَعهم وصانعهم واشترى كفَّهم عنه بالمال. ولم تكن بإزاء ثغور العراق في الشرق دولة قوية منظمة كدولة الروم، ولكن كثيراً من مدن الفرس تنكَّر للمسلمين وهمَّ بالثورة لولا ما كان من رجوع عليّ إلى الكوفة وتكلّفه ضبط هذه الثغور. وإذا طال القتال بين جيشين عظيمين واشتد، وبلغ من القبح والشناعة ما صوّره المؤرخون وأصحاب القصص، كَثُر القتلى والجرحى من الفريقين، وإن بالغ القصّاص بعد ذلك في عدد أولئك وهؤلاء.
والشيء الذي لا شك فيه هو أن جماعة من خيار المسلمين وأعلامهم من أهل العراق وأهل الشام قد قتلوا في هذه الحرب، وكان قتلهم مروّعاً لمن شهده ولمن سمع الحديث بذكره بعد انقضاء الحرب، وما زال مروّعاً للذين يقرءونه الآن في كتب القصص والتاريخ.
فقد قُتل من أصحاب معاوية عبيد الله بن عمر بن الخطاب، قاتل الهرْمزان، كما قُتل جماعة من خيار أصحابه وأعظمهم شجاعة ونجدة وبأساً. وقتل من أصحاب عليّ عمار بن ياسر، وما زال قتله من الأحاديث المأثورة بين المسلمين، فهو ابن أول شهيدين في الإسلام. فتن أبو جهل أباه ياسراً وأمه سُمَيّة حتى قتلهما كما هو معروف. وهو الذي قال له النبي: ويحك يا ابن سُمَيّة، تقتلك الفئة الباغية. وقد أشفق الزبير، كما رأيت، من حرب عليّ حين عرف أن عمَّاراً معه. وكان خُزَيمة بن ثابت الأنصاري يتبع عليّاً في صفين ولكنه لا يقاتل، وإنما يتحرى أمر عمّار، فلما عرف أنه قد قُتل قال: الآن استبانت الضلالة. ثم قاتل حتى قتل. رأى أن أهل الشام قد قتلوا عمّاراً فعرف أنهم الفئة الباغية التي ذكرها النبي في حديثه ذاك. ووقع قَتْل عمار من معاوية وأصحابه وقعاً أليماً مروّعاً، لم يشكّوا في أن النبي قال له: تقتلك الفئة الباغية، وإنما حاولوا أن يخفوا علمهم بهذا الحديث. فلما لم يجدوا إلى ذلك سبيلاً تأولوه. وقال معاوية: أنحن قتلناه؟ إنما قتله الذين جاءوا به. "

طه حسين , علي وبنوه

168 " شهد سقراط في شبابه مجد الأمة اليونانية عامة ومدينة أثينا خاصة ، وشهد في شيخوخته هذه الجهود العنيفة التي كانت تبذلها هذه الأمة اليونانية نفسها لتقضي على ما كان لها من قوة وسلطان ، شهد تلك الحرب التي لم يعرف العالم القديم مثلها ، والتي أثرت في الحياة اليونانية تأثيرين مختلفين : فرقت الحياة العقلية ، وحطت الحياة السياسية ؛ وكانت فلسفة سقراط ممثلة لهذين التأثيرين : كان فيها انصراف عن السياسة ، وكانت فيها من ناحية أخرى عناية بالحياة العقلية ، وحرص على تقويتها وترقيتها وتهذيبها . وشهد أفلاطون في شبابه ضعف الأمة اليونانية عامة ومدينة أثينا خاصة ؛ وتدخل الأجنبي في أمر هذه الأمة التي كانت شديدة البأس واسعة السلطان ؛ فأصبحت أداة تصطنعها الأمة الفارسية لإرضاء مطامعها المختلفة في آسيا وفي أوربا . وشهد في شيخوخته انحلال هذه الأمة اليونانية وموت الروح الوطني فيها .
وكانت فلسفته ممثلة لهذا العصر الذي عاش فيه تمثيلًا صحيحًا ؛ فكانت من جهة كفلسفة سقراط ترمي إلى تقوية الحياة العقلية ومحاولة أن تكون وحدها غاية الرجل الحكيم . وكانت من جهة أخرى كفلسفة سقراط أيضًا تمثل السخط على الحياة السياسية الحاضرة ، وتتخذها موضوعًا للعبث والسخرية . ولكنها لم تكن يائسة من الإصلاح ، وإنما كانت تخالف فلسفة سقراط وترمي إلى وضع نظام جديد للحياة السياسية ليس يعنينا الآن أكان في نفسه حسنًا أم سيئًا ، معقولًا أم غير معقول ، ولكن الذي يعنينا أنه كان محاولةً للإصلاح ورغبة في إقامة بناء سياسي جديد ، ودليلًا واضحًا على أن البناء السياسي القديم الذي كان قد أخذ يتصدع أيام سقراط قد أشرف الآن على أن ينهار ، ولم يبق من الاستعداد بد لإقامة بناء جديد على أنقاضه . "

طه حسين , قادة الفكر

174 " وكان في مكة من أزواج النبيّ حفصة بنت عمر وأم سَلَمة وعائشة بنت أبي بكر. وقد أخذت عائشةُ طريقها إلى المدينة بعد أن قضت مناسكها، وعرفت أثناء سفرها مقتل عثمان وخُبّرت بأن طلحة قد بُويع له فأظهرت بذلك ابتهاجاً. فقد كان طلحة مثلها تَيْميّاً. ولكنها لقيت في طريقها من أنبأها بحقيقة الأمر وبأن عليّاً هو الذي تمّت له البيعة في المدينة. فضاقت بذلك ضيقاً شديداً وأعلنت أنها كانت تؤثر انطباق السماء على الأرضَ قبل أن ترى عليّاً وقد أصبح للمسلمين إماماً. ثم قالت لمن كان معها: ردُّوني. فرجعوا بها أدراجهم إلى مكة. وكان معروفاً أن عائشة رحمها الله لم تكن تحب عليّاً ولا تهواه، بل كان معروفاً أنها كانت تجد عليه مَوْجدة شديدة منذ حديث الإفك حين أراد عليّ أن يواسى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأشار عليه بأن يطلقها وقال له: «إن النساء غيرها كثير». ». وكان ذلك قبل أن يُنزل الله براءتها في القرآن. فلم تنسَ لعليّ قوله ذاك. وكانت عائشة شخصية من أقوى الشخصيات التي عرفها تاريخ المسلمين في ذلك العهد، لم تكن رفيقة كأبيها وإنما كانت شديدة كعُمَرَ، على احتفاظ منها بكثير مما ورثت العرب عن جاهليتها. فكانت تحفظ الشعر وتكثر من حفظه وإنشاده والتمثل به، حتى إنها رأت أباها وهو يحتضر، فتمثَّلت قول الشاعر:

لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حَشْرجت يوماً وضاق بها الصدرُ

وسمعها خليفةُ رسول الله أبوها فقال لها كالمنكر عليها: بَخٍ بَخٍ يا أم المؤمنين! هلا تلوث قول الله عز وجل: ﴿وجاءَتْ سَكْرةُ الموْتِ بالحق ذلك ما كنت منه تَحِيد﴾.
وكانت من أشد نساء النبيّ إنكاراً على عثمان، لم تتحرّج أن تصيح به من وراء سترها وهو على المنبر حين عاب عبدَ الله بن مسعود فأسرف في عيبه. ولم تكن تتحفّظ من الاعتراض على كثير من أعمال عثمان ومن سيرة عمّاله حتى ظن كثير من الناس أنها كانت من المحرّضين على الثورة به. وكانت تُنكر على عليّ فيما أعتقد أمرين آخرين: أحدهما لم يكن لعليّ فيه خيَرة، فقد تزوّج فاطمةَ بنت رسول الله ورُزق منها الحسن والحسين، فكان أبا الذرية الباقية للنبيّ، ولم يُتح لها هي الولد من رسول الله، مع أنه قد أتيح لمارية القبطية أم إبراهيم في أواخر أيام النبيّ. فكان هذا العُقيْم يؤذيها في نفسها بَعضَ الشيء، ولا سيما وهي كانت أحبَّ نساء النبي إلى النبيّ.

أما الأمر الآخر فهو أنّ عليّاً قد تزوج أسماء الخثْعميَّة بعد وفاة أبي بكر رحمه الله، وأسماءُ الخثعمية هي أم محمد بن أبي بكر الذي نشأ في حجر عليّ، فكانت عائشة تجد على عليّ لهذا كله. وقد عادت إلى مكة مغاضبةً حين عرفت أن أهل المدينة قد بايعوا له. فلما رجعت إلى مكة عمدت إلى الحِجْر فاتخذت فيه ستراً وجعل الناس يجتمعون إليها فتحدّثهم من وراء الستر: تُنكر قتل عثمان وتقول: «لقد غضبنا لكم من لسان عثمان وسوطه، وعاتبناه حتى أعتب وتاب إلى الله وقَبِل المسلمون منه، ثم ثار به جماعة من الغوغاء والأعراب فماصُوه مَوْص الثوب الرخيص حتى قتلوه، واستحلّوا بقتله الدم الحرام في الشهر الحرام في البلد الحرام». "

طه حسين , علي وبنوه

179 " وهل كانت توجد الحضارة اليونانية التي أنشأت « سقراط » أو « أرسطاطاليس » ، والتي أنشأت « إسكولوس » و « سوفكليس » ، والتي أنشأت « فدياس » و « بيركليس » لو لم توجد البداوة اليونانية التي سيطر عليها شعر « هوميروس » وخلفائه ؟ ! وهل كانت توجد الحضارة الإسلامية ، التي ظهر فيها من ظهر من الخلفاء والعلماء وأفذاذ الرجال ، لو لم توجد البداوة العربية ، التي سيطر عليها امرؤ القيس والنابغة والأعشى وزهير وغيرهم من هؤلاء الشعراء الذين نبخسهم أقدارهم ولا نعرف لهم حقهم ؟ ! غير أن هناك فرقًا عظيمًا بين بداوة العرب وبداوة اليونان : بداوة العرب أثرت في العرب وفي الحضارة الإسلامية ، ولم تجاوز الحضارة الإسلامية إلا قليلًا . وإذن ، فشعراء الجاهلية العربية عرب لا أكثر ولا أقل . أما بداوة اليونان ، فقد أثرت في اليونان ، وأثرت في الرومان ، وأثرت في العرب ، وأثرت في الإنسانية القديمة والمتوسطة ، وهي تؤثر الآن في الإنسانية الحديثة ، وستؤثر فيها إلى ما شاء الله ، وإذن فشعراء البداوة اليونانية يونان ، ولكنهم مِلْكٌ للإنسانية كلها . "

طه حسين , قادة الفكر