Home > Work > قادة الفكر
1 " قلنا : إن سقراط اتخذ لنفسه قاعدة جعلها إمامًا له في سيرته وفي تعليمه ، وهي هذه الحكمة التي كانت مكتوبة على معبد « دلف » : « اعرف نفسك بنفسك » . وهذه الحكمة نفسها إذا تأملناها أوضحت لنا جملة الفلسفة السقراطية . "
― طه حسين , قادة الفكر
2 " النبوغ إذًا ظاهرة اجتماعية واقعة ، نشهدها من حين إلى حين ، والأفراد النابغون مهما تعترضهم العقاب ، ومهما يكتنفهم من الظروف ، فلهم من قيادة الفكر ، والسيطرة عليه حظ يلائم نصيبهم من النبوغ . "
3 " كان سقراط قليل الميل إلى الديمقراطية ؛ كما كان شديد البغض للاستبداد ، عدوًّا للأرستقراطية. "
4 " شهد سقراط في شبابه مجد الأمة اليونانية عامة ومدينة أثينا خاصة ، وشهد في شيخوخته هذه الجهود العنيفة التي كانت تبذلها هذه الأمة اليونانية نفسها لتقضي على ما كان لها من قوة وسلطان ، شهد تلك الحرب التي لم يعرف العالم القديم مثلها ، والتي أثرت في الحياة اليونانية تأثيرين مختلفين : فرقت الحياة العقلية ، وحطت الحياة السياسية ؛ وكانت فلسفة سقراط ممثلة لهذين التأثيرين : كان فيها انصراف عن السياسة ، وكانت فيها من ناحية أخرى عناية بالحياة العقلية ، وحرص على تقويتها وترقيتها وتهذيبها . وشهد أفلاطون في شبابه ضعف الأمة اليونانية عامة ومدينة أثينا خاصة ؛ وتدخل الأجنبي في أمر هذه الأمة التي كانت شديدة البأس واسعة السلطان ؛ فأصبحت أداة تصطنعها الأمة الفارسية لإرضاء مطامعها المختلفة في آسيا وفي أوربا . وشهد في شيخوخته انحلال هذه الأمة اليونانية وموت الروح الوطني فيها .وكانت فلسفته ممثلة لهذا العصر الذي عاش فيه تمثيلًا صحيحًا ؛ فكانت من جهة كفلسفة سقراط ترمي إلى تقوية الحياة العقلية ومحاولة أن تكون وحدها غاية الرجل الحكيم . وكانت من جهة أخرى كفلسفة سقراط أيضًا تمثل السخط على الحياة السياسية الحاضرة ، وتتخذها موضوعًا للعبث والسخرية . ولكنها لم تكن يائسة من الإصلاح ، وإنما كانت تخالف فلسفة سقراط وترمي إلى وضع نظام جديد للحياة السياسية ليس يعنينا الآن أكان في نفسه حسنًا أم سيئًا ، معقولًا أم غير معقول ، ولكن الذي يعنينا أنه كان محاولةً للإصلاح ورغبة في إقامة بناء سياسي جديد ، ودليلًا واضحًا على أن البناء السياسي القديم الذي كان قد أخذ يتصدع أيام سقراط قد أشرف الآن على أن ينهار ، ولم يبق من الاستعداد بد لإقامة بناء جديد على أنقاضه . "
5 " الحق أنك لا تكاد تنظر في التاريخ منذ ابتداء عصر القياصرة حتى تستيقن أن شيئين قد أخفقا إخفاقًا ، وآن أن يقوم مقامهما شيئان آخران . فأما الشيئان اللذان أخفقا فهما الديمقراطية والفلسفة . وأما الشيئان اللذان قدرت لهما السيادة وكتب لهما الفوز ، فهما الأوتقراطية والدين . "
6 " وهل كانت توجد الحضارة اليونانية التي أنشأت « سقراط » أو « أرسطاطاليس » ، والتي أنشأت « إسكولوس » و « سوفكليس » ، والتي أنشأت « فدياس » و « بيركليس » لو لم توجد البداوة اليونانية التي سيطر عليها شعر « هوميروس » وخلفائه ؟ ! وهل كانت توجد الحضارة الإسلامية ، التي ظهر فيها من ظهر من الخلفاء والعلماء وأفذاذ الرجال ، لو لم توجد البداوة العربية ، التي سيطر عليها امرؤ القيس والنابغة والأعشى وزهير وغيرهم من هؤلاء الشعراء الذين نبخسهم أقدارهم ولا نعرف لهم حقهم ؟ ! غير أن هناك فرقًا عظيمًا بين بداوة العرب وبداوة اليونان : بداوة العرب أثرت في العرب وفي الحضارة الإسلامية ، ولم تجاوز الحضارة الإسلامية إلا قليلًا . وإذن ، فشعراء الجاهلية العربية عرب لا أكثر ولا أقل . أما بداوة اليونان ، فقد أثرت في اليونان ، وأثرت في الرومان ، وأثرت في العرب ، وأثرت في الإنسانية القديمة والمتوسطة ، وهي تؤثر الآن في الإنسانية الحديثة ، وستؤثر فيها إلى ما شاء الله ، وإذن فشعراء البداوة اليونانية يونان ، ولكنهم مِلْكٌ للإنسانية كلها . "
7 " لا توجد مدرسة تحترم نفسها في أوربا لا يدرس فيها الشباب الأوربي « الإلياذة » و « الأودسا » في نصوصها اليونانية ، أو مترجمة إلى اللغات الحديثة . "
8 " إن أفلاطون لا يفرِّق في الأخلاق بين العلم والعمل ؛ فهو يؤكد ، كما كان يؤكد سقراط ، أن مصدر ما نتورط فيه من الرذائل والآثام إنما هو جهلنا بالخير وقصورنا عن إدراكه ؛ فإذا أزيل هذا الجهل وأتيحت لنا القوة التي تمكننا من إدراك الخير ومشاهدته ، فنحن بمأمن من الرذائل والآثام . وليس يستطيع أفلاطون ، كما لم يكن يستطيع سقراط ، أن يتصور أن الإنسان يقدم على الشر وهو يعلم أنه شر ، وينصرف عن الخير وهو يعلم أنه خير . وإذًا فالفلسفة التي تؤدي إلى إدراك فكرة الخير ليست مصدر السعادة النظرية العملية وحدها ، بل هي مصدر السعادة العملية أيضًا ؛ فالفيلسوف أسعد الناس لأنه يدرك الخير ويراه ، ثم لأنه يسعى إليه ويطمع فيه وينظم حياته تنظيمًا يجعلها ملائمة له . "
9 " شيء آخر يتم نظرية أفلاطون في الأخلاق ، ويعين على فهم هذه الشخصية القوية ، وعلى فهم ما كان لفلسفة أفلاطون من أثر بعيد في الحياة الإنسانية ، وهو رأيه في العقوبة الخلقية ، فليس يكفي أن يمثل لك الخير ويدعوك إليه . بل ليس يكفي أن يمثل لك الشر ويحذرك منه . وإنما هو يرى أن العقوبة أمر محتوم لا منصرف عنه ولا مفر منه ، فلكل عمل جزاؤه ، له الثواب إن كان خيرًا ، وله العقاب إن كان شرًّا — تلك نتيجة محتومة للعدل ، وهي نتيجة طبيعية ليست متكلفة ولا مصطنعة ، ليست كهذه العقوبات التي تفرضها القوانين المكتوبة ، وإنما هي أقوى وأنفع وألزم من هذه العقوبات .يرى أفلاطون أن هذه العقوبة ليست شرًّا ، وإنما هي الخير كل الخير ، ذلك أنها لا ترمي إلى الانتقام ولا إلى التعذيب ، وإنما ترمي إلى التصفية والتطهير ؛ فالأنفس الآثمة عندما تعاقب تطهر من أدران الإثم ، وتعد لأن تستأنف حياتها الصالحة الراقية التي تلحقها بنفوس الأخيار وترقى بها إلى مستقرها الأول في الملأ الأعلى . أما تفصيل هذه العقوبات فجميل لا يخلو من لذة شعرية ، ولا من قوة خيالية مدهشة . وحسبك أن مذهب التناسخ يختصر هذه العقوبات : فالنفس الآثمة بعد الموت تعود إلى هذه الحياة لتمحو إثمها ، وهي تستقر في جسم من الأجسام يلائم نوع الإثم الذي اقترفته : كانت نفس رجل ، فهي الآن نفس امرأة . كانت نفس إنسان ، فهي الآن نفس فرس ، أو نفس كلب ، أو نفس حمار ، وهلم جرًّا ، فأنت ترى أن النظرية الخلقية لأفلاطون متصلة بنظريته في الطبيعية وفيما بعد الطبيعة . وليست بنظريته السياسية بأقل اتصالًا بفلسفته العامة من نظريته الخلقية . ذلك لأن رأيه السياسي يقوم على رأيه الخلقي : فالجماعة عنده كالفرد تتأثر بما يتأثر به وتخضع له ، ويجب أن تطمح إلى ما يطمح إليه . "
10 " كان سقراط قليل الميل إلى الديمقراطية ؛ كما كان شديد البغض للاستبداد ، عدوًّا للأرستقراطية ، وقد أغضب هذه الطبقة كما أغضب الشعب : أغضبها حين أبى على الطغاة الثلاثين ما أرادوه عليه من المعونة ، وحين عرض نفسه بذلك الخطر . ومن هنا لم ينته القرن الخامس حتى كان سقراط قد ألَّب على نفسه الديمقراطية المنتصرة والأرستقراطية المنهزمة ، كما أنه كان قد ألَّب على نفسه الشعراء والفلاسفة والمعلمين ، لأنه صرف عنهم الشباب من جهة ، ولأنه كان شديد السخر بهم من جهة أخرى . فما هي إلا أن تم انتصار الديمقراطية على الطغاة الثلاثين ، حتى تقدم اثنان من الأثينيين ، أحدهما شاعر ، بقضية إلى الشعب يتهمان فيها سقراط تهمًا عدَّة : منها أنه أفسد الشباب ، ومنها أنه لا دين له ، ومنها أنه يعبث بالنظم السياسية القائمة . وحوكم سقراط ، فلم يكن موقفه من قضاته موقف الرجل الذي يريد أن يدافع عن نفسه حقًّا ويثبت براءته حقًّا ، وإنما كان موقفه من القضاة موقف الساخر بهم ، المزدري لهم ، ومع ذلك فقد صدر الحكم عليه بكثرة قليلة جدًّا . وكانت العادة عند الأثينيين وغيرهم من القدماء أن يصدر في مثل هذه القضايا الجنائية حكمان : الأول يثبت إدانة المتهم أو ينفيها ، والثاني يقرر العقوبة التي يستحقها المتهم إذا ثبتت إدانته . وكانت العادة إذا ثبتت إدانة المتهم أن يُسأل عن العقوبة التي يرى أن يستحقها ، وأن يُسأل المدعي عن العقوبة التي يرى أن المتهم خليق بها ، ثم تفصل المحكمة بين هذين الجوابين ، فتقر إحدى العقوبتين اللتين اقترحهما المتهم والمدعي . فلما صدر الحكم بإدانة سقراط سُئل عن العقوبة التي يرى أن يستحقها ، فأجاب ساخرًا مستهزئًا : أنه يرى أن تطعمه الدولة مجانًا بقية حياته ؛ لأنه أنفق هذه الحياة في تعليم الأثينيين وتهذيبهم . وسئل المدعون فطلبوا الموت ، وكان القضاة قد سخطوا لهذه السخرية القاسية ، فأقروا في حكمهم ما طلب المدعون ، وقُضِيَ بالموت على سقراط .وليس من شك في أنه لو أحسن الدفاع عن نفسه لبرئ . وليس من شك في أنه لو لم يسخر من القضاة بعد إدانته لما حكم عليه إلا بالغرامة كثيرة أو قليلة ؛ ولكن موقفه أحنق عليه القضاة ، ثم انتهت به هذه السخرية إلى أن اعتبر مهينًا للدولة ، فعوقب معاقبة من تثبت عليه الخيانة العظمى أو الخروج على النظام القائم . "
11 " كما أن فلسفة سقراط وفلسفة أفلاطون تمثلان الحياة اليونانية في عصريهما ، فإن فلسفة أرسطاطاليس تمثل هذه الحياة أيضًا تمثيلًا قويًّا صادقًا ، فهي الدليل الناطق بأن الفلسفة السقراطية قد نجحت فيما كانت تحاول من إضعاف النظم السياسية القائمة ، وهي الدليل الناطق بأن الفلاسفة كانوا مصيبين في فهم الحياة السياسية والاقتناع بأنها سيئة ، وبأنها منتهية للكوارث من غير شك . "
12 " فهذه الفلسفة - الفلسفة السقراطية - تنحصر ، أو تكاد تنحصر ، في شيئين : الأول : أن الإنسان قد جهل نفسه في جميع العصور المتقدمة ، وأن جهله نفسه هو الذي حمله على أن يلتمس العلم في الخارج ، فيبحث عنه مرة في الأرض وأخرى في السماء ، وحينًا في الجو وحينًا في الماء ؛ وكان الحق عليه أن يبدأ بنفسه فيدرسها ويتبين أمرها ، حتى إذا فرغ منها استطاع أن ينتقل إلى الخارج . وليس هو في حاجة إلى ذلك ؛ لأنه لن يفرغ في درس نفسه أبدًا ، ولأنه سيجد في نفسه إذا درسها كل شيء . الثاني : أن الفلسفة يجب أن تقوم منذ اليوم على معرفة النفس والعلم بها ، أي إن الفلسفة يجب أن تكون إنسانية ، أي إن الفلسفة يجب أن تقوم قبل كل شيء على الأخلاق . "
13 " فقد كان سقراط ينتقل بفلسفته في شوارع أثينا من حانوت إلى حانوت ، ومن ميدان إلى ميدان ؛ ثم جاء أفلاطون فأقر تعليمه الفلسفي في مدرسة اختارها لهذا التعليم هي « الأكاديمية » ، كان يعيش فيها ويختلف إليه تلاميذه فيدرسون ويتحاورون . أما أرسطاطاليس فقد تخير المدرسة واستقر فيها مع تلاميذه كما فعل أفلاطون ، ولكنه لم يكن يعلم ولا يحاور جالسًا مستقرًّا ، وإنما كان يمشي في حديقة مدرسته ومن حوله أصحابه وتلاميذه ، فيدرسون ويحللون ويستنبطون ؛ فكان وسطًا في ذلك بين سقراط المتنقل وأفلاطون المستقر ، ومن هذا المشي مع أصحابه سميت مدرسته مدرسة المشائين ، وأطلق اسم المشائين على الذين ينتمون إلى مذهب أرسطاطاليس في الفلسفة . "
14 " وربما كان من الحق أن نقرر أن أرسطاطاليس قد نهض بالفلسفة نهوضًا عظيمًا ، ورقاها ترقية بعيدة الأثر ، حين عدل عن أسلوب الحوار إلى أسلوب البحث المباشر المتصل ؛ فقد يصلح الحوار في ألوان من الفلسفة وضروب من التفكير ، ولكنه من غير شك بعيد كل البعد عن أن يلائم البحث الفلسفي العميق عن الطبيعة وما بعد الطبيعة وعن المنطق ، وما يتصل به من فنون الأدب ، فهو إذا صح أسلوبًا للبحث السياسي والخلقي لا يصلح لغيرهما ، ومن هنا كانت فلسفة أرسطاطاليس في الطبيعة وما بعد الطبيعة أشد استقرارًا وأقدر على البقاء من فلسفة أفلاطون . "
15 " لعلك تعجب حين تراني أحدثك عن الإسكندر الفاتح ، في كتاب يبحث عن قادة الفكر . ولعلك تسأل : ما بال قائد من قواد الجيوش يخلط بهؤلاء الذين لم يتسلطوا إلا على العقول ؟ ولكني قلت لك في أول هذا الفصل : إن قيادة الفكر قد انتقلت من الشعر إلى الفلسفة ، ثم من الفلسفة إلى السياسة ، وكان الإسكندر هو الذي نقلها ، أو قل هو الذي انتزعها عن الفلسفة وأقرها للسياسة . "
16 " ؛ فالناس جميعًا يؤمنون بأن الإسكندر عظيم ، ولكنهم يردُّون هذه العظمة إلى ما أحدث الإسكندر من فتح لم يعرفه التاريخ القديم . وكيف لا يكون عظيمًا ذلك الشاب الذي نهض بالأمر بعد أبيه ، فلم يكد يستقبل الملك حتى فسد عليه كل شيء ، واضطرب من حوله كل شيء ، فإذا جيرانه يغيرون على مملكته من كل صوب ، وإذا حلفاؤه ينقضون الحلف ويثورون به يريدون أن يقضوا على سلطانه ؛ وإذا هو على حداثة سنه وقلة حظه من التجربة ، قد ثبت لهذا كله ، فَصَدَّ المُغِير ، وردَّ الحليف إلى الوفاء بالعهد ، وقضى على أطماع جيرانه ، ومحا آمال اليونان في الاستقلال ، واتخذ من خصومه وأعدائه على اختلاف أجناسهم ، وتباين أهوائهم ، وتفاوت حظوظهم من الرقي العقلي ، جيشًا ضخمًا منظمًا ، عبر به البحر إلى آسيا . فلم يكد يظهر فيها حتى طرد الفرس من آسيا الصغرى ، ومضى في طريقه يتبع ساحل البحر حتى أخضع البحر كله لسلطانه ، وإذا هو في الشام ، وإذا هو في مصر ، وإذا هو وارث ملك الفراعنة ، وإذا هو يؤسس عاصمة العالم الجديد ، وإذا هو يترك مصر ويتعمق في آسيا ، فيقضي على دولة الفرس ويرث عرشها ، وإذا هو يجدُّ في غزوه ويُمْعِن في فتحه ، فيبلغ الشرق الأقصى ، ويُوغِل في الهند إيغالًا ، ويرفع لواء الحضارة اليونانية والأدب اليوناني في أرض لم تسمع باليونان من قبل ، وإذا هو يعود إلى بلاد الفرس ويستقر للراحة في بابل وقد ورث ملك الفراعنة والبابليين والآشوريين والفرس وسلطان اليونان والفينيقيين ، وضم هذا كله إلى ملك مقدونيا الذي ورثه عن أبيه . كل ذلك لم يرضه ولم يقنعه ، وما كان استقراره في بابل إلا استعدادًا لحركة أخرى أشد عنفًا من الحركة الأولى وأبعد منها أثرًا ؛ فقد كان يريد أن يستأنف السير فيعبر البحر إلى إفريقية ، ويمضي في طريقه حتى يبلغ عمود هرقل أو مضيق جبل طارق ، فيقضي على سلطان الفينيقيين في إفريقية الشمالية ، ويبسط سلطانه على أوربا الغربية ، ويقتحم هذا القسم من أوربا حتى يتم دورته ، وينتهي إلى مقدونيا حيث ابتدأ حركته . كان يستعد لهذا كله ، كان زعيمًا أن يتمه ويوفق له ، لولا أن الموت عاجله فوقفه في منتصف الطريق ! كيف لا يكون عظيمًا هذا الشاب الذي فعل هذا كله في عشر سنين أو أقل من عشر سنين ؛ نعم هو عظيم ، ولم تخطئ الأجيال الماضية حين أضافت عظمته إلى هذه الحركة العنيفة الخصبة .ولكننا مع ذلك نرى أن عظمة الإسكندر ينبغي أن تضاف إلى شيء غير هذا خليق بالخلود حقًّا ؛ لأنه يتصل بالعقل لا بالأرض ، فلم يكن الإسكندر قائد جيش ليس غير ، وإنما كان قائد فكر قبل كل شيء وبعد كل شيء ، وفوق كل شيء . لم يفهمه معاصروه ، ولم يفهمه خلفاؤه ، وفهمناه نحن ، ولكننا لم نفهمه بعد كما ينبغي . "
17 " نستطيع أن ندرس أفلاطون من حيث إنه كاتب ؛ فنحن نعلم أن تاريخ الأدب اليوناني لم يعرف كاتبًا ثائرًا كأفلاطون ، وأن آثار أفلاطون كلها آيات ، لا بالقياس إلى الأدب اليوناني وحده ، بل بالقياس إلى الأدب الإنساني كله ، سواء منه القديم والحديث . ونحن نعلم أن كل إنسان — مهما يكن حظه من الرقي العقلي ، ومهما تكن جنسيته وحضارته — يستطيع إذا قرأ أفلاطون أن يجد فيه لذة لا تعدلها لذة ، ولا يشعر بها الإنسان إلا حين يقرأ آيات اليونان ، ثم نستطيع أن ندرس أفلاطون من ناحية أخرى غير ناحية الكتابة والنثر ، وهي ناحية الشعر والخيال ، فلم ينظم أفلاطون الشعر على قواعد العروض والقافية ، ولكنه كان شاعرًا في نثره ؛ ولا يعرف تاريخ الأدب القديم شاعرًا كان له من قوة الخيال ولطفه وسحره وسلطانه على النفوس مثل أفلاطون . ثم نستطيع أن ندرس أفلاطون من ناحية ثالثة ، هي ناحية الفيلسوف الذي يبحث عما بعد الطبيعة . فيتعمق في بحثه تعمقًا لم يسبق إليه ، وأخشى أن أقول لم يلحق فيه ، بل أستطيع أن أقول ذلك ، بشرط أن أستثني تلميذه « أرسطاطاليس » . ثم هناك ناحية رابعة ، نستطيع أن ندرس منها أفلاطون ، وهي ناحية الفيلسوف الخلقي ، الذي يؤسس علم الأخلاق ، لا على مبادئ سقراط وحدها ، بل عليها وعلى مبادئ أخرى ، استطاع هو أن يكشفها أثناء بحثه عن الطبيعة وعما بعد الطبيعة . ثم هناك ناحية خامسة نستطيع أن ندرس منها أفلاطون وهي ناحية الفيلسوف السياسي ، الذي وضع علم السياسة ، وحاول لا أن يتفهم الحياة السياسية فحسب ، بل أن يضع نظامًا سياسيًّا يعتقد هو أنه المثل الأعلى للإنسانية المنظمة . ثم هناك ناحية سادسة ، نستطيع أن ندرس منها أفلاطون ، وهي ناحية الفيلسوف النفسي ، الذي هوَّن الأمر على أرسطاطاليس وغير أرسطاطاليس من الذين عُنُوا بالمنطق ، ووضع علمًا جديدًا يبحث عن المعرفة وشروطها ونظمها وغايتها ، فوضع أساس المنطق ، وأساس علم النفس ، أو قل : وضع أساس الفلسفة كلها . تستطيع أن تدرس أفلاطون من كل هذه النواحي . ولكنك تستطيع أن تطمئن ؛ فلن أدرس أفلاطون في هذا البحث من كل هذه النواحي ؛ فمثل هذا الدرس يحتاج إلى كتاب ضخم لست أنا الذي يستطيع أن يضعه . إنما أريد أن أوجز لك أشد الإيجاز ، خلاصةً من الفلسفة الأفلاطونية التي كان لها الأثر العظيم جدًّا في قيادة الفكر الإنساني قديمًا وحديثًا . "
18 " كانت فلسفة سقراط حربًا على السوفسطائية ، وكذلك كانت فلسفة أفلاطون . فإن انتصار سقراط على السوفسطائيين ، لم يزل سلطانهم ، ولم يمح آثارهم . بل نستطيع أن نقول : إن كثيرًا من السوفسطائيين اتخذوا الفلسفة السقراطية وسيلة إلى تقوية مذهبهم ، والإمعان فيما كانوا فيه من شك وتشكيك ، ولعل هذا هو الذي يفسر لنا وجود هذه المدارس السقراطية المتناقضة فيما بينها ، والتي انبثت في أقطار الأرض . فلم يكن إذًا بد لأفلاطون من أن يذهب مذهب أستاذه في محاربة السوفسطائية ، وإقامة فلسفة جديدة تعتمد على أن الحقائق ثابتة ، وعلى أن الشك ضرب من الضعف لا خير فيه ولا غناء . وقد سلك أفلاطون إلى تأسيس هذه الفلسفة سبيلًا واضحة قيمة ، ولكن سلوكها ليس باليسير على غير الفيلسوف . "
19 " قلت : إن الشباب الأثيني كان شديد الالتفاف حول سقراط ، وإن الناس تسامعوا به في جميع البلاد اليونانية ، فأقبلوا إليه واشتركوا في حواره ، فلما قضي عليه بالموت وأنفذ فيه هذا القضاء ، ظهر في أثينا روح رجعي معاد للفلسفة والفلاسفة ميال إلى المحافظة في الرأي ، فتفرق تلاميذ سقراط الأصفياء سواء منهم الأثينيون وغير الأثينيين . فمنهم من عاد إلى وطنه وأخذ يعلم الفلسفة فيه ، ومنهم من هاجر إلى أرض أخرى وأنشأ فيها مدرسة توارثها خلفاؤه من بعده ، ومنهم من ساح في الأرض ، ومنهم من استخفى في أثينا وترك الفلسفة إلى حين ، حتى إذا هدأت العاصفة استأنف بحثه الفلسفي وأخذ يعلم الناس . كل هؤلاء التلاميذ نشروا في أطراف الأرض اليونانية فلسفة سقراط وفلسفتهم الخاصة . وما هي إلا أعوام بعد موت سقراط . حتى كان تلاميذه قد أنشئوا المدارس المختلفة في أطراف من بلاد اليونان الحقيقية أو في بعض المدن الإيطالية والآسيوية ، بل في إفريقية . وأخذت هذه المدارس بحظوظها المختلفة من الحياة ، فمنها ما بقي وحفظت آثاره ، ومنها ما ذهب به عبث الأيام . ولست أذكر من هذه المدارس إلا ثلاثًا كان لها أثرًا عظيمًا جدًّا في حياة العالم القديم ، وكان لبعضها أثرٌ لا يزال قويًّا في حياة العالم الحديث : الأولى : مدرسة « الكلبيين » التي أنشأها رجل من تلاميذ سقراط يسمى « أنتستين » (Antistène) في أثينا ، والتي اتخذت اسمها من المكان الذي أنشئت فيه ، والتي كانت تقوم فلسفتها على قاعدة سقراط التي قدَّمناها ، وهي معرفة النفس بالنفس ، ولكنها كانت تطبق هذه القاعدة تطبيقًا انتهى بها إلى الزهد وإلى المبالغة فيه ؛ لأنها حاولت أن تعرف النفس فعرفتها واستغنت بها عن كل شيء ، وحملتها هذه المعرفة على أن تزدري الحياة والأحياء ، وما يستمتعون به من لذة ، وما يتهالكون عليه من زينة . ولعلك تعرف كثيرًا من أخبار « ديوجين » (Diogène) الذي كان يبحث عن الإنسان فلا يجده ؛ لأن الإنسان عنده هو من عرف نفسه ؛ وأي الناس يعرف نفسه ! والذي يقال إنه كان يأوي إلى دَنٍّ يتخذه له بيتًا ، وكان لا يكره أن يستظل السماء ويتخذ الأرض له وطاءً ويشرب الماء بيده يستغني بها عن الأقداح ، والذي يقال إن الإسكندر زاره وسأله : ماذا يريد ؟ فأجابه : أريد ألا تحجب عني الشمس ، فقال الإسكندر : لو لم أكن الإسكندر لوددت أن أكون ديوجين . كان تأثير هذه المدرسة شديدًا جدًّا في العصور الأولى ؛ فقد انبعث تلاميذها في البلاد اليونانية في أزياء الفقراء والمعوزين لا يلتمسون من الناس شيئًا ، ولكنهم يدعونهم إلى الزهد والقناعة والانصراف عن اللذات . ولعلك تذكر ما كان لمثل هذه النظريات من الأثر ي حياة العالم القديم ، ولا سيما أيام الإمبراطورية الرومانية قبل انتشار الديانة المسيحية . المدرسة الثانية : مدرسة « قورينا » (Cyrène) ، أو مدرسة « برقة » ، وهي مدرسة مناقضة من كل وجه للمدرسة التي قدَّمت لك ذكرها ، أنشأها تلميذ من تلاميذ سقراط يقال له أرِستيب (Aristippe) ، وتوارثها خلفاؤه من بعده إلى أيام المقدونيين في مصر ، وكانت تقوم أيضًا على قاعدة سقراط « اعرف نفسك بنفسك » ، ولكنها سلكت سبيلًا غير سبيل « الكلبيين » ، عرف النفس فوجدت أن الخير إنما هو في أن تزدري النفس الحياة والأحياء ازدراء لا يقوم على الزهد والحرمان ، وإنما يقوم على اللذة والاستمتاع بالخير ، ما وجدت إلى هذا الاستمتاع سبيلًا . فلمَ الحرمان ؟ ولمَ الزهد ولمَ النفاق ؟ ألست تشعر بأن شيئًا يلذك وشيئًا يؤذيك ! فالخير هو أن تؤثر ما يلذك على ما يؤذيك ، ولكن لا على أن تجعل نفسك عبدًا للذة ، بل على أن تجعل اللذة أمةً لنفسك ، تأخذ منها ما استطعت ، دون أن تأسف عليها إذا حيل بينك وبينها ، ودون أن تضحِّي في سبيلها بإنسانيتك في حاجة إلى أن أذكرك بما كان لهذه المدرسة من التأثير في الحياة القديمة ؛ فأنت تعلم أن مذهبين خلقيين كانا يتنازعان حياة القدماء : أحدهما مذهب الزهد الذي أعلنه الكلبيون بعد سقراط ، وبالغ فيه الرواقيون بعد أرسطاطاليس . والآخر مذهب اللذة الذي أعلنه « أرستيب » بعد سقراط ، وبالغ فيه « أبيقور » (Epicure) بعد أرسطاطاليس . أما المدرسة الثالثة ، فهي أبقى المدارس التي نشأت عن فلسفة سقراط وأبعدها أثرًا في الحياة الإنسانية ، وأعظمها حظًّا في الخلود : أثرت في العالم القديم ، وأثرت في القرون الوسطى ، وأثرت في العالم الحديث ، وما زال لها أنصارها وتلاميذها إلى اليوم وإلى ما بعد اليوم ؛ ولكني لا أحدِّثك عنها في هذا الفصل ؛ فهي تحتاج إلى فصل خاص ؛ لأنها نشأت لنا رجلين من قادة الفكر الإنساني العام : أحدهما : « أفلاطون » ، والآخر : « أرسطاطاليس » . "
20 " - إن الشعر هو أول مظهر من مظاهر الحياة الاجتماعيةالقومية لكل الأمم المتحضرة التي عرفها التاريخ- الشعر : لونًا من ألوان التصور وضربًا من ضروب الحس والفهم أقل ما يمكن أن يوصفا به أنهما يعتمدان على الخيال قبل كل شيء؟ يعتمدان على الخيال فيدركان الحقائق- الفلسفة : إنها الوسيلة إلى أن يتصور الإنسان الحقائق ويحكم عليها بعقله لا بخياله ولا بحسه ولا بشعوره- تعتمد الفلسفةعلى النقد، ويعتمد الشعر على التصديق- ونحن إذا سألنا التاريخ عن مقدار القرون التي قضتهاالأمة اليونانية مثلًا لتستبدل العقل بالخيال ولتديل الفلسفة من الشعر، أنبأنا بأن هذه القرون ليست أقل من خمسة أو ستة- وكان رقي العقل مصباحًا لرقي آخر هو الرقي السياسي- الأسباب التي دعت إلى هذا التطور سببان : أحدهما سبب اقتصادي، والآخر سياسي واجتماعي- ينمو العقل فتقوى شخصية الفرد وتشتد مطامعه، وتنشأ عن ذلك الثورات السياسية؛ ثم تنمو المنافع الاقتصادية العامة فتظهر الخصومات بين المدن وتنشأ بينها الحروب- وتأثرت الأمةاليونانية من غير شك بالحضارات الشرقية المختلفة- لم يكن للشرق في تكوين الفلسفة اليونانية والعقل اليوناني والسياسة اليونانية تأثير يذكر، إنما كان تأثير الشرق في اليونان تأثيرًا عمليٍّا ماديٍّا ليس غير- فعمل الفيلسوف ليس هو تعليم الإنسان ما لم يعلم، وإنما هو إعداد الإنسان لكشف الحقائق- أن لغة الكاتب تتطور كما تتطور آراؤه- النفس عند افلاطون تتكون من : قوة عقلية ، قوة غضبية ، قوة شهوية .- و لا بد من ان يحدث توازن بين تلك المكونات ، ليوصلنا الى العدل النقسي .- العدل السياسي توازنٌ بين الأنفس الثلاث الاجتماعية أو السياسية .- فللجماعة أنفس ثلاث كالفرد: لها نفس العاقلة وهي الحكومة ، الجيش ، العمال و الزراع .. .- وإذًا فالحياة الاجتماعية السعيدة هي التي يتحقق فيها التوازن بين هذه الأنفس الثلاث . "