Home > Work > عثمان
1 " الشئ الذى لا يمكن أن يتعرض للشك هو أن المسلمين قد اختلفوا على عثمان، وأن هذا الاختلاف قد انتهى إلى ثورة قتل فيها عثمان، وأن هذه الثورة قد فرّقت المسلمين تفريقاً لم يجتمعوا بعده إلى الآن. "
― طه حسين , عثمان
2 " وأكبر الظن أن عبد الله هذا إن كان كل ما يروى عنه صحيحا، إنما قال ما قال ودعا إليه بعد أن كانت الفتنة، وعظم الخلاف، فهو قد استغل الفتنة ولم يثرها، وأكبر الظن كذلك إن خصوم الشيعة أيام الأمويين والعباسيين قد بالغوا في أمر عبد الله بن سبأ هذا ليشككوا في بعض ما نسب من الأحداث إلى عثمان وولاته من ناحية، وليشنعوا على علي وشيعته من ناحية أخرى، فيردوا بعض أمور الشيعة إلى يهودي أسلم كيدا للمسلمين. وما أكثر ما شنع خصوم الشيعة على الشيعة ! وما أكثر ما شنع الشيعة على خصومهم فى أمر عثمان وفى غير أمر عثمان ! "
3 " وكذلك دفعت سياسة عثمان المالية هؤلاء الثائرين إلى أن يلحوا على عثمان في تغييرسياسة عمر نفسها. وما دام عثمان قد ذهب إلى سياسة تنحرف عن سياسة عمر حتىالذين أسرفوا على أنفسهم في الملك والتوسع فيه، فليس « الرأسماليين » أبعد وأنشأ طبقةهناك ما يمنع الثائرين من أن يكفوا يد عثمان وعماله عن هذه السياسة وإن اقتضى ذلك الانحراف عن سيرة عمر. وإذا لم يكن بدٌّ من السياسة التي تقوم على الأثرة لا على الإيثار، وتنحرف عن هذه الاشتراكية المعتدلة التي مضت عليهما أمور المسلمين، فلا أقل من أن يتحقق شيء من العدل في هذه الأثرة، ومن أن يكون رأس المال موقوفًا على الذين اكتسبوه بأيديهم وبذلوا في سبيله جهودهم ودماءهم. والمهم هو أن الثائرين أرادوا التي أحدثتها سياسة عثمان شاملة عادلة بمقدار ما يمكن أن « الرأسمالية » أن تكون تبلغ من الشمول والعدل. ثم هم رأوا أن كثيرًا من شباب قريش وأهل المدينة يعيشون عيشة بطالة يعتمدون على أعطياتهم، وقد لا يحتاجون إلى هذه الأعطيات، فقالوا: من كان منهم غنيٍّا فلا حق له في بيت المال، ومن كان منهم فقيرًا فليعمل وليكتسب، ولا معنى لأن تنفق الأموال العامة على الفارغين والمتبطلين. وقد أجابهم عثمان إلى ما طلبوا، وخطب الناس فقال لهم: من كان له زرعٌ فليلحق بزرعه، ومن كان له عملٌ فليكتسب من عمله؛ فليس لأحد عندنا عطاء إلا أن يكون من الذين قاتلوا على هذا الفيء أو من هؤلاء الشيوخ من أصحاب رسول لله. "
4 " وأنكر المسلمون على عثمان موقفه من ناقديه ومعارضيه؛ فهو قد انحرف عن سيرة عمر في ذلك انحرافًا عظيمًا؛ فعمر لم ينهَ عماله عن شيء كما نهاهم عن أن يستعبدوا الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا، ولم يحذِّرهم من شيء كما حذَّرهم من العنف بالرعيةوالاعتداء على أبشارها وأشعارها. فلم يكن عمر إذن يبيح ضرب الناس إلا في الحدود،ولم يكن يعفي عماله من القصاص إن تعدَّوا على الرعية بالضرب في غير حدٍّ أو في غير حق من الحقوق. فأما عثمان فمهما يكن اعتذار أهل السنة والمعتزلة عنه، فإنه قد أسرفوترك عماله يسرفون في العنف بالرعيةضربًا ونفيًا وحبسًا. وهو نفسه قدضرب أو أمربضرب رجلين من أعلام أصحاب النبيِّ:ضرب عمار بن ياسر حتى أصابه الفتق، وأمر من أخرج عبد لله بن مسعود من مسجد النبي إخراجًا عنيفًا حتى كسر بعض أضلاعه.ومهما يكن من أمر هذين الرجلين الجليلين ومِن نقدهما له وتشهيرهما به وتشنيعهماعليه، فما نعلم أنه حاكمهما أو أقام عليهما الحجة أو أباح لأحد منهما الدفاع عن نفسه، وإنما سمع فيهما قول عماله أو قول خاصته، ثم عاقبهما دون أن يقيم عليهما البينة، وليس له من هذا كله شيء.ويقول المدافعون عن عثمان من أهل السنة والمعتزلة: إن للإمام حق التعزير. وليسفي ذلك شك، ولكن بشرط أن يأتي المسلم من الأمر ما يستحق عليه التعزير، وأن يقالله ويسمع منه وتقوم عليه البينة. وما نعرف أن عثمان حاكم عمارًا أو ابن مسعود.وهو نفسه قد شق على أبي ذرٍّ حتى نفاه أو اضطره إلى أن ينفي نفسه من الأرض؛ لا لشيء إلا لأنه أنكر سياسته في الأموال العامة، وأنكر النظام الاجتماعي الذي أنشأ طبقةالأغنياء، وأتاح لهم أن يكنزوا الذهب والفضة، ويستكثروا من المال إلى غير حد. ثم هو قد أذن لعماله أن يخرجوا الناس من ديارهم كلما آنسوا منهم بعضما يكرهون، فجعل عماله يتقاذفون فريقًا من أهل الكوفة، يرسلهم سعيد إلى معاوية، ثم يردُّهم معاوية إلى سعيد، ثم يرسلهم سعيد إلى عبد الرحمن بن خالد، دون أن يحاكموا أو تقوم عليهم البينة أو يسمع منهم دفاعهم عن أنفسهم. وأذن لعبد لله بن عامر في أن ينفي عامر بن عبد القيس إلى الشام، فلم يكد معاوية يراه ويسمع منه حتى تبين أنه مظلوم مكذوب عليه، وأراد أن يردَّه إلى البصرة فأبى. واجترأ عبد لله بن سعد بن أبي سرح على أن يضرب بعض الذين شكوه إلى الإمام حتى انتهى بأحدهم إلى الموت، واضطرَّ المهاجرون والأنصار وأزواج النبي إلى أن يلحوا على عثمان في أن ينصف المصريين من عاملهم، فهمَّثم لم يبلغ ما أراد. فهذه السياسة العنيفة التي تسلط الخليفة وعماله على أبشار الناس وأشعارهم، وعلى أمنهم وحريتهم، ليست من سيرة النبي ولا من سيرةالشيخين في شيء. وقد اجترأ بعض الناس على نقد النبي نفسه، حتى قال له: اعدل يا محمد فإنك لم تعدل. مرة«!؟ ويحك! فمن ذا يعدل إذا لم أعدل » : ومرة. فلما قالها الثالثة لم يزد النبي على أن قال وهمَّ المسلمون أن يبطشوا بهذا الرجل، ولكن النبي كفهم عن ذلك. وقد يقال إن المسلمين أحدثوا في أيام عثمان أحداثًا لم تكن، فسار فيهم سيرة تلائم هذه الأحداث. وهذا بالضبط وقد أحدثتم أحداثًا لم تكن، وقد أحدثنا لكل ذنب » : شبه ما قال زياد لأهل العراق وغريب أن تذكرنا سياسة عثمان ووُلاته سياسة زياد مرتين. «. عقوبة والآن وقد استعرضنا هذه الأحداث وآراء المتكلمين فيها، فقد نستطيع أن نستقبل الفتنة منذ حدثت، ونعرضها كما كانت إلى أن انتهت إلى المرحلة الأولى من مراحلها، وهو هذا الحدث العظيم الذي قتل فيه الإمام عنوة لا اغتيالًا. "
5 " ويخيل إلىّ أن المسلمين رضوا بخلافة عثمان ست سنين، ثم احتملوها أربع سنين. فلما جاوز عثمان بخلافته الأعوام العشرة جعل المسلمون يضيقون به ويستطيلون خلافته، يظهرون ذلك فى شئ من الرفق أول الأمر، ثم فى شئ من الحدة بعد ذلك، ثم فى عنف جعل يتزايد شيئاً فشيئاً حتى انتهى إلى غايته المنكرة وهى قتل الإمام. "
6 " وقد نظر القدماء إلى جميع الأحداث التي كان فيها عيب عثمان والاختلاف عليه نظرة دينية خالصة، كما نظر إليها الذين عاصروا عثمان سواء منهم من خاصمه ومن ناصره، لأنهم كانوا ينظرون هذه النظرة الدينية إلى كل شيء من أمور الدين والدنيا جميعاً. وهم من أجل ذلك تكلموا في الكفر والإيمان أكثر مما تكلموا في الخطأ والصواب وفي المنفعة والمضرة. وما دمنا نصور آراءهم فلننظر إلى هذه الأحداث نظرتهم، ولكن في شيء من التمييز مع ذلك بين هذه الأحداث. "
7 " والشئ الذي ليس فيه شك هو أن عثمان قد ولى الوليد وسعيدا على الكوفة بعد أن عزل سعدا، وولى عبد الله بن عامر على البصرة بعد أن عزل أبا موسى، وجمع الشام كلها لمعاوية، وبسط سلطانه عليها إلى أبعد حد ممكن بعد أن كانت الشام ولايات تشارك في إدارتها قريش وغيرها من أحياء العرب، وولي عبد الله ابن أبي سرح مصر بعد أن عزل عنها عمرو بن العاص، وكل هؤلاء الولاة من ذوي قرابة عثمان، منهم أخوه لأمه، ومنهم أخوه في الرضاعة، ومنهم خاله، ومنهم من يجتمع معه في نسبه الأدنى إلى أمية بن عبد شمس. "
8 " والشئ الذي ليس فيه شك هو أن عثمان قد ولى الوليد وسعيدا على الكوفة بعد أن عزل سعدا، وولى عبد الله بن عامر على البصرة بعد أن عزل أبا موسى، وجمع الشام كلها لمعاوية، وبسط سلطانه عليها إلى أبعد حد ممكن بعد أن كانت الشام ولايات تشارك في إدارتها قريش وغيرها من أحياء العرب، وولي عبد الله ابن أبي سرح مصر بعد أن عزل عنها عمرو بن العاص، وكل هؤلاء الولاة من ذوي قرابة عثمان، منهم أخوه لأمه، ومنهم أخوه في الرضاعة، ومنهم خاله، ومنهم من يجتمع معه في نسبه الأدنى إلى أمية بن عبد شمس. كل هذه حقائق لا سبيل إلى إنكارها، وما نعلم أن ابن سبأ قد أغرى عثمان بتولية من ولى وعزل من عزل، وقد أنكر الناس في جميع العصور على الملوك والقياصرة والولاة والأمراء إيثار ذوي قرابتهم بشؤون الحكم، وليس المسلمون الذين كانوا رعية لعثمان بدعا من الناس، فهم قد أنكروا وعرفوا ما ينكر الناس ويعرفون في جميع العصور. "
9 " الذى ليس فيه شك هو أن ظروف الحياة الإسلامية فى ذلك الوقت كانت بطبعها تدفع إلى اختلاف الرأى وافتراق الأهواء ونشأة المذاهب السياسية المتباينة. فالمستمسكون بنصوص القرآن وسنة النبى وسيرة صاحبه كانوا يرون أموراً تطرأ ينكرونها ولا يعرفونها، ويريدون أن تواجه، كما كان عمر يواجهها، فى حزم وشدة وضبط للنفس وضبط للرعية. وللشباب الناشئون فى قريش وغير قريش من أحياء العرب كانوا يستقبلون هذه الأمور الجديدة، فيها الطمع وفيها الطموح، وفيها الأثرة وفيها الأمل البعيد، وفيها الهم الذى لا يعرف حداً يقف عنده، وفيها من أجل هذا كله التنافس والتزاحم لا على المناصب وحدها بل عليها وعلى كل شئ من حولها. وهذه الأمور الجديدة نفسها كانت خليقة أن تدفع الشيوخ والشباب إلى ما دفعوا إليه. فهذه أقطار واسعة من الأرض تفتح عليهم، وهذه الأموال لا تحصى تجبى لهم من هذه الأقطار، فأي غرابة في أن يتنافسوا في إدارة هذه الأقطار المفتوحة، والانتفاع بهذه الأموال المجموعة؟ وهذه بلاد أخرى لم تفتح، وكل شئ يدعوهم إلى أن يفتحوها كما فتحوا غيرها، فما لهم لا يستبقون إلى الفتح؟ وما لهم لا يتنافسون فيما يكسبه الفاتحون من المجد والغنيمة إن كانوا من طلاب الدنيا، ومن الأجر والمثوبة إن كانوا من طلاب الآخرة؟ ثم ما لهم جميعا لا يختلفون في سياسة هذا الملك الضخم وهذا الثراء العريض؟ وأي غرابة في أن يندفع الطامحون الطامعون من شباب قريش من خلال هذه الأبواب التي فتحت لهم ليلجوا منها إلى المجد والسلطان والثراء؟ وأي غرابة في أن يهم بمنافستهم في ذلك شباب الأنصار وشباب الأحياء الأخرى من العرب؟ وفي أن تمتلئ قلوبهم موجدة وحفيظة وغيظا إذا رأوا الخليفة يحول بينهم وبين هذه المنافسة، ويؤثر قريشا بعظائم الأمور، ويؤثر بني أمية بأعظم هذه العظائم من الأمور خطرا وأجلها شأنا؟ "