Home > Author > غادة العبسي
1 " حدثَ شيءٌ ما عندما رأيتُ كيف يتحوَّل الشعير السابح في الماء إلى مشروبٍ سحريٍّ، لا هو بالماء، حيث لا لونَ ولا رائحة، ولا هو بالخمر التي تُذهِب العقل، لونه في سُمرَة جلودنا، ورائحته مثل الخبز الطازج، مُشتَهاة، موفورة، مأكولة، قبل حتى أن يخرج الرغيف الساخن من الفرن، ولكنها معجونة برائحة الجوع المُرَّة، طعمه مثل الأيام: حُلوٌ وحامِض، تلك المزازة التي نتجرَّعها في صمتٍ ورضا. "
― غادة العبسي ,
2 " - تأمَّل حبوب الشعير يا خواجة، تُخبِرْكَ بالحكمة التي لا تُغفَل، الحبوب التي تبدو مجرَّدَةً من الحياة تنبُت بدون تُربَةٍ ولا سقاية. تلك التوليفة العجيبة بين الموت والحياة هي ما تجعل البيرة جيِّدَةً، أليس كذلك؟ قد تُولَدُ الثورة في أحلك الظروف مهما بَدَا لك الفلَّاحون غيرَ مُبالين، كالموتى في الجبَّانات. "
3 " العالم نفسه ليس سوى كأسٍ من البيرة: كل الفقاعات تتنافس على المقاعد العليا لتطفو، الكبير منها ينمو أكثر وأكثر، والصغير يتضاءل حتى يضمر ويختفي...ولكن ستافانوس تعلَّم كيف يواجه هذا العالم الظالم من طريقة صَبِّ البيرة في الأكواب، فإذا كان يجب أن تسكُبَ البيرة عند زاوية الكوب لا أن تسكبها في منتصفه، بل لا بُدَّ أن تُميله قليلًا لتحصل على مشروبٍ غنيِّ الرغوة، مستقرٍّ في كأسه، بين الصعود والهبوط، فلِمَ تُفسد حياتك بالمواجهات المباشرة الصدامية؟ لمَ يجب أن تقف في منتصف المعركة عاري الصدر؟ احتمِ بجدارٍ كجدار كوب البيرة، ثم مِل قليلًا، حتى تمُرَّ العواصف وتنتهي الرعود، وحتى يمتلئ كوبك بما تحب وتهوى . "
4 " ولكن سمعان لم يسعَ كغيره من اليهود وراء جنسيَّةٍ أجنبيَّة، هل لهذا السبب أحبَّ البيرة؟ لأنها مثله ومثل بني قومه، لا يمكن خَلطُها مع أيِّ شيءٍ آخر، اليهودي لا يبحث سوى عن الرغوة الغَنيَّة الطافية على سطح البيرة، مجرَّد جدارٍ فاصِلٍ يَعصِمه من العالم الذي لم يَتقبَّله يومًا إلَّا في ظروف استثنائية، كان يجب أن يبتعد اليهوديُّ عن الطريق، يُنحَّى جانبًا ليفسح المجال للأطهار من المسلمين المارِّين، وبطرطور فوق الرأس كما كان الحال أيام المماليك، ما الفرق بين الطرطور والطاليت (شال الصلاة)؟ وما سوف يَستَجِدُّ من أدواتٍ لتمييز هذا العِرْق؟ بل وكل عِرقٍ يخالف الأغلبية السائدة المتناغِمَة؟ "
5 " - هل تدري يا "تيودور" لماذا أحببنا السينما الصامتة؟ لأننا نحبُّ أن نخلق، ونُبدِعَ، ونُملي على الكون ما نتصوَّر ونتخيل، المسرح بكل قُوَّته وجبروته وحضوره لا يجعلك بالضرورة تحبُّ ما يُقال، قد تجده لطيفًا، ولكن في كثير من الأحيان قد تجده مُمِلًّا ومُتكرِّرًا، أمَّا هناك في السينما، عندما تجلس صامتًا مُحدِّقًا إلى الصور، تكتب في ذهنك وبنفسك الحوار الذي أرَدتَ سَماعَه، وقتها فقط وعندما تخرج من صالة العرض تشعر بأنك قد أنجزت شيئًا، أخرجته إلى حَيِّز الوجود والإمكان. "
6 " لن يستطيع عِلوة أن يفسِّر الحالة التي تنتابه عندما يأتي على ذِكرِها، ولكن في أعماقه هو مؤمِنٌ بأن أم كلثوم هي العالَم الجديد، الواعد بعد اليأس، البَعثُ بعد طول الرقاد.. قُدرَتُها على أداء أصعب الألحان والكلمات وتطويعها، يُعطي للحالمين أملًا أنه مهما عَسُرَت حياتهم وتكاثرت همومهم سوف يتمكَّنون من الفوز في النهاية... "
7 " - لَيتَكَ لم تأتِ قَطُّ يا حبيبي.- اكتُبي لي أي سيناريو آخر يُمكنني من رؤيتك دون أن أقع في حُبِّكِ، تخلَّصي من التفاصيل المؤدِّية إلى عينيكِ، واحذفي المشاهد التي لا جدوى منها وأنتِ تغلقين بابك في وجهي دون أن تَرِقِّي لقلب مريضٍ بِكِ، امحي كل هذا الحشو الغنيِّ بابتسامِكِ ولَهوِكِ، غيرِّي أسباب اللقاء إذًا، رتِّبي لقاءً جامِدًا بدلًا من لقاء شاعريٍّ لا يُنسَى، عودي بنا لنقطة ما قبل القضاء والقدر لننسف كل ما حدث وننثر رماده على الشطآن التي أشبعناها حُبًّا وقُبلات "
8 " السيد هو اسمي وليس صفتي ولا مهنتي، من كوم الشقافة البرَّاني، نعم أنا وجيراني وغيرهم من ساكني الإسكندرية مثل العملة البَرَّاني التي لا رواج لها، تستطيع أيضًا أن تقول إننا برَهَّ حيِّز الاهتمام، برَّه الأولوليات، برَّه الحياة؟ جائز جدًّا، لا تحسبني جاهلًا نسبةً لما أقول الآن، مع أنني لا أُنكِر جهلي، فلا يعرف السيد سلام شيئًا عمَّا خلف القصور والقلاع والأردية الغالية والأموال والذهب، لا أعرف ما الذي تخفيه القُبَّعات ولا حتى ما وراء عيون النسوان الحلوة من هنا أم من هناك.ولكن حتمًا أعرف كيف أشتري نصف أوقية دخان، وكيف أرطن بكم كلمة روميَّة على طلياني، وكيف أصطفي السَّمكات الطازجات، أعرف أيضًا كيف أصبر على طعام واحد.كلهم أراد معرفة مَن أنا، وماذا أصنع، وكيف قامت الدنيا ولم تقعد بسببي... سأخبرك بكل صراحة، أحاول أن أتذكَّر ما حدث، ولكن يبدو أنني مُشوَّش، مشوَّش جدًّا في الحقيقة، لدرجة أني لا أذكر صنعتي، ولكن من المؤكَّد أني من كوم الشقافة البَرَّاني كما أخبَرتُكَ، فوق رأس الحارة التي فيها سراي الشيخ حسن عبد الله، أَنظُر إلى هيئتي، فلا أجد ما يميِّزني عن أقراني لأعرف به نفسي، كُلُّنا سُمر، بجلباب أبيض مرفوع ومثنيٍّ ومُثبَّت عند البطن بحزام من الجوخ، بعصابة رأس كالحة من الحر والصهد والعَرَق، كلنا كما يقولون عَنَّا: عبيد، دون أن يشترينا أحد، هل أنت متأكِّد أن اسمي هو السيد فعلًا؟ "
9 " تفاريد ثومة ستُلهِمُكَ طُرُقًا عديدة للإفلات من الكرب والشقاء وجفاف الروح، تفاريد ثومة تُشبِه تصاريف القدر، طريقة جديدة وابتداع مختلف مع كل إعادة، الخروج عن السياق المتَّفَق عليه، ارتجالات وليدة اللحظة، كل لحظة وأي لحظة أرادتها السِّت، حُرَّة من كلِّ قَيد، حتى قيد اللحن والكلمة، وتأبى في كل مرة إلَّا أن تأخذ السَّمِّيعَة معها في رحلة الحرية التي تتمتَّع بها كُلَّما شَدَت وتفرَّدَت. كريمة يا ست! "
10 " مَن مِنَّا الذي ينقر في بدن الآخر؟ أنا أم أنتْ؟مِنقارك الصغير ينقر في بدني، يلتقط فتاتي مثل الكتكوت الذي يلتقط فتافيت الدشيشة، يسعدني جدًّا أن تأكلني، أن تتغذي مني، بل حتى أن تنمو لك آلاف الأصابع الشفافة وأن تلدغني مثل قنديل بحر ولا تفلتني، منقار الكتكوت ما زال يحفر في مادتي، أنا التي تخشى أي كومة تتنفس، أنا التي تخشى الكتاكيت ورجولها وخاصةً الشراكسة منها خالية الشعر عند الرقبة، غير أن زغب أجنحتها الأصفر يصيبني بقشعريرة تسري في كياني كله، أشعر بنفس الشيء إذا دسستُ يدي في كومةٍ من الحبوب، مضاف إليه إحساس بشللٍ مفاجئ يصيب أطراف أصابعي! لكن هي الطفلة التي باتت تستمتع بالبليلة مع نكهة القرفة، الإفطار المصري الشهي في عصر ما قبل (الكورن فلكس)، هي أنا التي -بكل قسوة- تفكك عظام الأجنحة المحمرة وتستمتع بمذاقها، بل إنني أحشوها أحيانًا باللحم المفري، أكلة تعلمتها من أمي، في بلادنا نحن مغرمون بطبخ ما قد يتخلص منه غيرنا، البيوت المصرية الأصيلة شحيحة القمامة، الملابس البالية تُرقَّع، الصغار يرتدون ثياب من سبقوهم بعد (تأييفها)، بقايا الجبن تودَع في البلاليص مع التنكار لمنع نمو الدود، حتى كسرات الخبز تُبل وتقدم طعامًا شهيًّا للكتاكيت والدجاج. "
― غادة العبسي , سدرة
11 " -مثل ثمار اللوف الخُضْر التي لم تنضج بعد، تغضب إذا لُمسَت فلا تُخرِج قلبها للنور، تظل على خضارها حتى يثقل حملها وتسقط! "
― غادة العبسي , الإسكافي الأخضر - فانتازيا الهمس والعقارب
12 " عندما يُحتضَر كائن حي، تدور معركة غير متكافئة بينه وبين الموت، يحاول جذب روحه من بين أصابعه السوداء، يقاوم الغياب بالحضور، كيف يصل ما قد قُطع؟ كيف يمد جسوراً بين أشلائه الممزقة؟ كنتُ أموت ودمُك الساري في نسيجي ينقذني من الفناء..لم تغير محاولة الذبح أي شيء، لم ينفصل بعضنا عن البعض، ولم يكف كلانا عن النمو، ولكني صبيحة اليوم التالي وجدتني أدمع من أطرافي..لم يكن بخْراً أو ندىً ..كان دمعاً خالصاً! "
13 " ي عالمنا الأخضر لا توجد كراهية، حتى الزهور التي تقتطفها الأيدي، والفروع الشديدة التي تسقط إذا قُلّمت أشجارها ، والجذور المقتلَعَة من طينها لا تكره، إنها تحزن فحسب..والحزن توأم المعرفة، وللفرح مواسم أيها الحبيب، تصيبُ نفحاتُه سالكي هذا الطريق قبل أن يهلكهم حزنهم.. "
14 " -المزارعون يدركون تلك الحقيقة، يخفون البذور في الأرض، ويخبئونها بعيداً عن الأعين، الحب أيضاً في حاجةٍ إلى تخبئة كي لا تمتد إليه الأيدي بالأذى قبل أن يكبر ويشتد عوده. "
15 " تذكّر وأنت تصنع من أجلهم وجوهاً للأحذية أن وجوههم نحيلة مثل الأقمار المتجوّلة في أطوارها الأولى والأخيرة، تلك سنة الحياة، فلا تحسب المحاق مظلماً وأنهم لا يبتسمون خلفه، فالغياب منتهى الحضور! "