Home > Work > عبقرية الصديق
21 " ثم جاءت الشيوعية وهي قائمة على أن الأبطال صنائع المجتمع وليسوا بأصحاب الفضل عليه، وأن تعظيم الأبطال الغابرين يصرف الناس عن عيوب النظم الاجتماعية التي أنشأت أولئك الأبطال فخدموها قاصدين مدبرين أو على غير قصد منهم وتدبير، وأفرط الشيوعيون في تلويث كل عظمة يؤدي توقيرها إلى نقض مذهبهم ومخالفة دعوتهم، حتى بلغ من سخفهم في هذا أنهم غيَّروا أبطال الروايات في مسرحيات شكسبير وأمثاله فعرضوا «هملت» على المسرح لئيمًا ماكرًا سيِّئ النية على خلاف ما صوره الشاعر؛ لأن تصوير أمير من أمراء القرون الوسطى في صورة حسنة يُخِلُّ بما قرروه عن النظم الاجتماعية والسياسية في تلك القرون. "
― عباس محمود العقاد , عبقرية الصديق
22 " وُلد للسنة الثانية أو الثالثة من عام الفيل، فهو أصغر من النبي ﷺ بنحو سنتين، وهو عبد الله بن عثمان الذي عُرف باسم أبي قحافة، ويَلتَقي نسبه ونسب النبي ﷺ عند مُرَّة بن كَعبٍ، بعد ستة آباء، وكلا أبويه من بني تيم، وهم قومٌ اشتهر رجالهم بالدَّماثة والأدب، واشتهرت نساؤهم بالدَّل والحُظوة، وقيل إن بنات تيم أدل النساء وأحظاهن عند الأزواج. "
23 " وكانت أمَارات استخلافه ظاهرة من طلائعها الأولى قبل مرض النبي عليه السلام بسنوات. فكان أول أمير للحج بعث به النبي عليه السلام وهو بالمدينة. "
24 " وكان قتال بين جماعة من الأوس، فذهب النبي عليه السلام يُصلح بينهم وقال لبلال: إن حضرت الصلاة ولم آت؛ فمر أبا بكر فَليُصَلِّ بالناس. "
25 " فأبغض شيء كان إلى نفسه الكريمة قولُ من كانوا يقولون: إن النبوة تمهيد لدولة هاشمية أو وراثة دُنيوية. "
26 " لهذا أصهر إلى أبي سفيان، واتخذ معاوية كاتبًا للوحي، وأمر يوم فتح مكة مناديًا ينادي في الناس: «… من دخل المسجد فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن» ليمحو من نفوس بني أمية حزازة العصبية بينهم وبين بني هاشم، ولا يدع في سرائرهم مجالًا للظن بأنها غَلَبة أسرة على أسرة، أو بطن من قريش على سائر بطونها. "
27 " ولا ريب أنه عليه السلام لم يُؤثر قريشًا بالأمر يومئذ؛ لأنه يؤثر العصبية لبني قبيلته وقومه، ولكنه آثرهم للحكمة السياسية البَيِّنة التي لا يسهو عنها الهداة المسئولون عن مصائر الأمم في عصر من العصور. فقريش هم أصحاب السيادة في مكة وهي كعبة الإسلام وعاصمة الدول الإسلامية في ذلك الحين. ولن تفلح دولة يكون أهل العاصمة فيها أولَ الثائرين عليها والمنكرين لذويها. "
28 " أما الخلافة في بني تيم، رهط أبي بكر، فهي خلافة قريش كلها ومعهم جميع المسلمين، لتعذر قيام الدولة ببطن واحد من البطون الصغيرة واحتياج الحاكم إلى اتفاق هذه البطون من حوله. ويقال مثل ذلك في بني عَدِيٍّ رهط عمر، وفي سائر البطون القرشية ما عدا هاشمًا وأمية. "
29 " ولو أن سعد بن عبادة كان صحيحًا غير مريض، وكان الأنصار حزبًا واحدًا غير منقسم، وكان المهاجرون الثلاثة متخلفين عن الموعد الحاسم، أو كانوا غير أبي بكر وعمر وأبي عبيدة، أو كانوا جمعًا كثيرًا يَحفزُ العداء والمقاومة، لجاز أن يتغير مجرى الأمور وأن يكون للتاريخ الإسلامي شأن غير شأنه الذي عرفناه. "
30 " وصفوة القول أن خلافة أبي بكر كانت نتيجة لكل مقدمة سبقتها من فعل الحوادث، أو من فعل أحد عامد أو غير عامد. "
31 " ولكن الغبطة بالخلافة شيء والاحتيال لها بالحيلة والدسيسة شيء آخر، "
32 " كان كما وصفته عائشة رضي الله عنها: «غزير الدمعة، وقيذ الجوانح، شجي النشيج» … «أسيفًا متى يقم مقامك — تخاطب رسول الله — لا يسمع الناس.» "
33 " ومما جاء في الحديث الشريف عن علمه وفطنته أنه عليه السلام قال: كأني أعطيت عُسًّا مملوءًا لبنًا فشربت منه حتى امتلأت، فرأيتها تجري في عروقي بين الجلد واللحم، ففضَلت منها فضلة فأعطيتها أبا بكر. قالوا: يا رسول الله! هذا علم أعطاكه الله، حتى إذا امتلأت فضَلَتْ فضلة أعطيتها أبا بكر. قال ﷺ: «قد أصبتم.» "
34 " وقد عرف الصديق بالحدة وهي أيضًا من خلائق هذا المزاج التي يُغالبها مَن يحرصون على وقارهم ومروءتهم أن يستهدفا لجرائر الحدة أو يندفعا في غير عمل حميد. إلا أن يُمس الرجل فيما هو من أخص الخصائص التي يقوم عليها مزاجه وتستقيم عليها عاداته وسماته فعندئذ تعسر المغالبة وتبرز الحدة من مكمنها، وهي على حق إذن في بروزها. "
35 " وهكذا نعلم أين تبدر الحدة وأين تبدر الصرامة من خليقة أبي بكر المسالم الوديع، فحيثما روى راوٍ أنه احتد أو اشتد؛ فلنعلم عن يقين أن في الأمر شيئًا يمس التصديق والإيمان، أو يمس المروءة والوقار، فلا تأتي الحدة أو الشدة يومئذ في غير موضعها من الطبيعة التي ولد بها ومَرن عليها. "
36 " أقرب المقاييس إلينا أن يكون تكذيب الوصف أصعب من تصديقه في تقدير العقل والبديهة، وفيما نعهده اليوم من حقائق هذه الأوصاف. "
37 " كان أبو بكر كما رأينا رجلًا عصبي المزاج دقيق البنية، خفيف اللحم صغير التركيب. "
38 " إن أصحاب البنية الدقيقة والمزاج العصبي مطبوعون على الشعور بالعظمة على حال من الأحوال، فإن كانوا كرامًا شعروا بها مغتبطين مؤيدين، وإن كانوا لئامًا شعروا بها محنَقين مُثَبِّطين، ويندر فيهم جدًّا من يشذ عن هذه أو تلك من الخصال. "
39 " ودعا الخليفة بأبي سفيان لأمر أنكره فأخذته الحِدَّة التي كانت تُراجعه في بعض ثورات نفسه، وأقبل يصيح على أبي سفيان وهو يلين له ويسترضيه، فسأل أبو قحافة قائده: على من يصيح ابني؟ فقال: على أبي سفيان! … فدنا منه يقول له وفي كلامه من الغبطة أكثر مما فيه من الإنكار، وفيه من دهاء الطيبة أكثر مما فيه من سهو الشيخوخة: أعلى أبِي سفيان تصيح وترفع صوتك يا عتيق؟! لقد عَدَوت طورك وجُزت مقدارك! "
40 " فدخل يومًا على السيدة عائشة رضي الله عنها وهي تمشي وتنظر إلى ذيل ثيابها فقال: يا عائشة! أما تعلمين أن الله لا ينظر إليك الآن؟ قالت: ومم ذلك؟ قال: أما علمت أن العبد إذا دخله العُجْب بزينة الدنيا مقته ربه عز وجل حتى يفارق تلك الزينة؟ فلما نزعت تلك الزينة التي أعجبتها فتصدقت بها قال: عسى ذلك يكفر عنك. "