Home > Author > فتحي المسكيني

فتحي المسكيني QUOTES

3 " ولذلك فإنّ عقوبة الإعدام متى صدرت ضدّ معارضين لسلطة الدولة باسم جريمة “سياسية” هي أكثر الجرائم لؤما ميتافيزيقيا: نعني استعمال العدالة بوصفها مؤسسة قتل. إذ ما معنى “المعارضة” ؟ - نحن لا نملك إلى حدّ الآن أيّ مفهوم مناسب ومتفق عليه حول معنى معارضة الدولة؟ وهذا النقص يؤجّل الدرس الديمقراطي إلى أمد غير معلوم.
في الحقيقة ليس هناك “جريمة” سياسية يمكن لمعارض ما أن يقترفها إلاّ تجوّزا أو توسّعا في المعنى. فكل موقف معارض هو نوع مختلف (وليس مخالفا) من الحرية. ولذلك لم يفهم حكّامنا، أبدا، منذ الجاهلية، معنى المعارضة إلاّ عرضا. لقد ظلّ الخارج عن الحاكم عندنا مجرما نسقيا، لا يمكن أن نقيم معه أيّ ضرب من التفاوض الإيجابي حول الحرية. ولذلك تأخّر درس الديمقراطية لدينا بشكل لم يعد يمكن احتماله.
إنّه لا يمكن الاطمئنان الأخلاقي لأيّ دولة تطبّق عقوبة الإعدام: فهي تفهم السيادة بوصفها بالأساس مؤسسة قساوة محضة، مسلطة على رقاب السكان داخل إقليمها منظورا إليه كغرفة تعذيب أبيض، يمكن أن يتلوّن إلى الأسود في أي لحظة استثنائية، أي لحظة الاتهام “السياسي”.
من أجل ذلك لا يجوز أبدا تبرير الموت بواسطة الديمقراطية. ليس هناك موت ديمقراطي أو قتل ديمقراطي أو إعدام ديمقراطي. بل ما نحتاج هو التدرّب على إعادة بناء المعارضة السياسية ديمقراطيًّا: كل معارضة، أكانت قائمة على وهم ديني أو على مطلب اجتماعي أو على رأي فكري أو على حرية شخصية أو على ضمير أخلاقي أو حتى على اعتراض بيئي،.. هي ضرب من التحدّي السياسي لا يحق لأيّ جهة مصادرته، أي معاملته باعتباره جريمة تستحق الإعدام.
فإنّ الدولة هي المسؤولة أوّلا وأخيرا ليس فقط عن مناخ العنف، بل بخاصة عن سياسة الموت في بلد ما: فكل من يموت أو يُقتل هو ميت أو مقتول تحت مسؤولية الدولة، سواء بشكل مباشر (من خلال التشريعات القائمة) أو بشكل غير مباشر (من خلال وتيرة العنف المسموح بها). "

فتحي المسكيني

4 " يجدر بنا الآن أن نميّز تمييزًا صارمًا بين الفلسفة وبين قراءات التراث. وفي الحقيقة، كلّ من يحصر التفكير في مشاريع قراءة التراث هو يهوّن على نفسه كثيرًا، مهمّة التفلسف. كلّ العلاقات مع الماضي متهافتة، طالما هي لا تقدم على إعادة اختراع دلالة هذا الماضي بالنسبة إلينا، نحن سكّان المستقبل، انطلاقًا من أفق الحاضر. ولقد صُرفت مجهودات مريرة للسيطرة على دلالة التراث بالنسبة إلى جيل الاستقلال، وكأنّه بعد معركة التحرر من استعمار الحاضر، انخرط المثقفون في التحرر من استعمار الماضي. لكنّ الماضي لا يجب أن يكون خصمًا لأحد. بل هو جملة من مصادر أنفسنا القديمة علينا الاحتراس في التزوّد الروحي أو اللغوي أو الميتافيزيقي منها. كانت مشاريع الوقت الضائع: ففي غياب مغامرات كونية للعقل، وهي تتمّ دومًا في الحاضر، تنخرط الثقافات في معارك ذاكرة وعمليات تأبين واسعة لجثة الماضي في وعيها العميق، ولكن من دون أيّ قدرة حقيقية على الحداد. على كل حال، كانت بعض قراءات التراث ضربًا من تملّق الذات في وقت عصيب حيث لم يكن المثقف قادرًا على التفلسف بالمعنى الدقيق للمفهوم، أي إقامة الأسئلة الكونية حول كينونته في العالم. كان تحويل التفكير الفلسفي إلى قراءات تراث خطأ تاريخيًّا جسيمًا، أوهمنا بأنّه يمكننا أن نتفلسف بشكل محلّي. والحال أنّ الفلسفة كونية أو لا تكون. "

فتحي المسكيني

10 " إمكانية الديمقراطية هي مساحة تمرين مرير على فن استعمال الحرية وذلك بتحريرها من رواسبها اللاهوتية: أي من قيم الاستبداد. وكل الاعتقاد الديني في إله مستبد بأمره، مستقل بنفسه، محتكر لعالم الأمر دون مخلوقاته، هو موقف سياسي في الصميم، وليس مزاجا أخرويا شخصيا. ولذلك فإنّ كل مشروع للديمقراطية في أي مكان أو زمان هو يكمن في فرضية تحرير الحرية من ماضيها اللاهوتي، أي من الطمع في التألّه على الآخرين باسم الإيمان بجهاز تقديس معيّن. ولذلك ليس الإيمان شعورا ضعيفا أبدا. بل هو طمع غير محدود في المشاركة في الأمر الإلهي في حكم العالم الإنساني وتسخيره. وربما كان كل إيمان ضربا من “الشرك” الأبيض أو العفوي أو البريء: هو الطمع في المشاركة في الاستبداد المتعالي على الوجود الإنساني، أكان أخلاقيا أو دينيا أو سياسيا.
لكنّ الإيمان الديني ليس هو النوع الوحيد من الاستبداد أو النوع الوحيد من التألّه أو التعالي: فإنّ الإيمان العلماني بهيبة الدولة أو بحرمة سيادتها أو بنزاهة قانونها أو بقداسة عدالتها أو بجلالة أعضائها، الخ... هو لا يقلّ رغبة في التألّه أو في المشاركة في الاستبداد باسم مقدّس ما، من الإيمان الديني.
إنّ القتل باسم أيّ مقدّس، أكان دينيا أو علمانيا، هو تبذير مجّاني للحياة. والموت لا يفيد أحدا. ومع ذلك فإنّ الإلحاد بكل المقدسات ليس حلاّ. فمن يلحد لا يلحد إلاّ داخل وفي نطاق تاريخ لاهوتي مخصّص جدّا. ومن ثم، لن يبقى أمامنا عندئذ سوى اختراع أنواع من الإيمان تكون أكثر ديمقراطية. ولا فرق إن كانت إيمانا بالله أو بالإنسان أو بالحقيقة أو بأيّ قيمة أخرى. "

فتحي المسكيني

14 " أمّا النتيجة الأخلاقية المباشرة لهذا التحوّل المفهومي الخفيّ فهو إنتاج "الإنسان الحديث": هذا الكائن المشوّه الذي لم يعد يستطيع أن يكون لا سيّدا ولا عبدا. في هذه البؤرة "الحديثة" تكوّنت تقويمات سقيمة وباهتة تدعي أنّها محايدة ونـزيهة من قبيل: الحسن والسيّئ، الجيّد والرديء، النافع والضار، اللائق وغير اللائق، المشروع وغير المشروع،... وهي كلّها تقويمات منافقة لأنّها لا تريد الحسم الأخلاقي في مرتبتها من إرادة الاقتدار: هل تريد السيادة أم تريد العبودية. مثلا: لا معنى لأنْ نقول عن شخص ما إنّه سيّء أو إنّه حسن، وإنّه جيّد أو إنّه رديء، ما لم أربط ذلك بتأويل حيوي نشط وجسور لإرادة الحياة التي تحدو ذلك الشخص. من أجل ذلك لا يكون الشخص "سيّدا" أو "عبدا" بالمعنى الاجتماعي أو السياسي السائد، بل في معنى إرادة السيادة على معنى الحياة التي يريد أن يخلقها وإرادة العبودية لمعنى مقرّر ومفروض عن الحياة. "

فتحي المسكيني , ‫الكوجيطو المجروح؛ أسئلة الهوية في الفلسفة المعاصرة ‬

19 " نحن لا يحق لنا أن "نرجو" من العالم الآخر إلاّ بقدر ما "نوسّع" من مجال استعمال عقولنا لا غير. إنّ الرجاء قصد "عملي" محض ولا يحتوي على أيّ مضمون "علمي". ومن يطمع في إنتاج "معرفة" عن الرجاء هو يعامله وكأنّه ظاهرة "وضعية" وليس موقفا روحيا. ولذلك فإنّ الأديان التوحيدية وغير التوحيدية تتعرض غالبا إلى عملية توظيف أداتي واسعة النطاق بمجرد الشروع في تفسيرها بشكل نظري وكأنّها "معارف" قابلة للبرهنة عليها. ليس ثمة إساءة للإيمان مثل تقديمه في ثوب معرفة يمكن تبريرها بشكل نظري. وفي المقابل لا ينبغي أبدا فهم "العملي" وكأنّه مجرد سلوك منفعي أو براغماتي. أجل، لا يخلو أيّ نمط من الرجاء من نوع ما من الغايات والمقاصد، إلاّ أنّها منفعة "متعالية" وبراغماتية "عقلية" وقبلية. إنّ القصد هو أنّ العملي لا يعني هنا أكثر من التشريع الأخلاقي الكوني لأنفسنا باسم فكرة الحرية بقدر مستطاع الطبيعة البشرية كعضو في مملكة الكائنات العاقلة المفترضة. العملي في صلب عقولنا وليس خارجها. إنّه معنى الحرية كعنصر "باطني" في نمط عقولنا كبشر. باطني أي صادر من طبيعتها من حيث نـزوعها العفوي إلى الحرية. "

فتحي المسكيني , ‫الكوجيطو المجروح؛ أسئلة الهوية في الفلسفة المعاصرة ‬