Home > Work > الكوجيطو المجروح؛ أسئلة الهوية في الفلسفة المعاصرة
1 " إنّ مفهوم الله الذي يهمّ مسألة الرجاء ليس من شأن الفيزياء أو الميتافيزيقا في شيء، لأنّ فشل العقل النظري في إنتاج معرفة نظرية عن وجود الله سيؤدي إلى "نهاية فلسفتنا"، أي إلى الإقرار الصريح بأنّه "من المحال بإطلاق أن نعرف وجود هذا الكائن بمفاهيم بحتة"219. ولذلك ثمة "أسلوب واحد" بفضله يمكن للعقل أن يفكّر في الله، ألا وهو "استعماله المحض العملي"، أي استعماله الأخلاقي في معنى "الاتجاه الضروري للإرادة نحو الخير الأسمى"220. إنّ ميل عقولنا إلى تصوّر خير ما يكون أسمى خير بالنسبة إلى طبيعتنا هو الذي يقود عقولنا إلى افتراض فكرة وجود كائن مثل الله، وليس أيّ معرفة نظرية مزعومة به. "
― فتحي المسكيني , الكوجيطو المجروح؛ أسئلة الهوية في الفلسفة المعاصرة
2 " أمّا النتيجة الأخلاقية المباشرة لهذا التحوّل المفهومي الخفيّ فهو إنتاج "الإنسان الحديث": هذا الكائن المشوّه الذي لم يعد يستطيع أن يكون لا سيّدا ولا عبدا. في هذه البؤرة "الحديثة" تكوّنت تقويمات سقيمة وباهتة تدعي أنّها محايدة ونـزيهة من قبيل: الحسن والسيّئ، الجيّد والرديء، النافع والضار، اللائق وغير اللائق، المشروع وغير المشروع،... وهي كلّها تقويمات منافقة لأنّها لا تريد الحسم الأخلاقي في مرتبتها من إرادة الاقتدار: هل تريد السيادة أم تريد العبودية. مثلا: لا معنى لأنْ نقول عن شخص ما إنّه سيّء أو إنّه حسن، وإنّه جيّد أو إنّه رديء، ما لم أربط ذلك بتأويل حيوي نشط وجسور لإرادة الحياة التي تحدو ذلك الشخص. من أجل ذلك لا يكون الشخص "سيّدا" أو "عبدا" بالمعنى الاجتماعي أو السياسي السائد، بل في معنى إرادة السيادة على معنى الحياة التي يريد أن يخلقها وإرادة العبودية لمعنى مقرّر ومفروض عن الحياة. "
3 " كيف يمكن للعقل العلماني أن يكفّ عن تنصيب نفسه حاكما على مضامين الإيمان دون أن يتخلى عن التزامه بضرورة ترجمة تلك المضامين في لغته الكلية باعتبارها في متناول الجميع؟ ليس هذا الجدل مستحيلا، إذا أقررنا آخر الأمر، كما صار متاحا اليوم في كتابات هابرماس، بأنّ روح الحداثة لم تأت من تقليد علماني محض، بل من التقليد التوحيدي والفكر اليوناني في آن واحد. ولذلك فالعلمنة هي "محوّل" لعناصر التراث وليس "مصفاة" لما ينبغي رفضه235. ولأنّ القانون الحديث يحتاج دوما إلى وسائط "الشرعية" فهو يحتاج اضطرارا إلى "القناعات" الأخلاقية للمواطنين، أي إلى تقنيات الرجاء التي تخصهم. "
4 " ومن ثمّة ليس التأويل لدى نيتشه بحثا عن "المعنى" المختفي في النصوص أو في الظواهر الأخلاقية، بل محاولة الربط بين "المعنى" الذي يعطيه كائن حي لحياته وبين نمط "المعاناة" الذي أقام عليه ذلك المعنى. "
5 " معضلة البشريّ هو كونه مدعوّا إلى احترام قانون أخلاقي مقدّس لكنّه هو بحد ذاته محروم سلفا من أيّ تقديس لشخصه، لأنّه لا يستطيع أبدا أن يكون في مستوى ما يجب عليه. مستطاع الإنسان لا يمكن أن يكون سوى "الفضيلة"، أما القداسة فهو لن يراها ممكنة بالنسبة إليه إلاّ في شكل قانون أخلاقي، أي "واجب" محض لا يستطيع أن يمتلك منه سوى الشعور بعظمته. وهكذا بدلا من "نقد الدين" فإنّ ما مارسه كانط هو تملّك منهجي رائع للفكرة الأخلاقية العليا للدين، أفضى به إلى الدفاع عن "قداسة الأخلاق". "
6 " نحن لا يحق لنا أن "نرجو" من العالم الآخر إلاّ بقدر ما "نوسّع" من مجال استعمال عقولنا لا غير. إنّ الرجاء قصد "عملي" محض ولا يحتوي على أيّ مضمون "علمي". ومن يطمع في إنتاج "معرفة" عن الرجاء هو يعامله وكأنّه ظاهرة "وضعية" وليس موقفا روحيا. ولذلك فإنّ الأديان التوحيدية وغير التوحيدية تتعرض غالبا إلى عملية توظيف أداتي واسعة النطاق بمجرد الشروع في تفسيرها بشكل نظري وكأنّها "معارف" قابلة للبرهنة عليها. ليس ثمة إساءة للإيمان مثل تقديمه في ثوب معرفة يمكن تبريرها بشكل نظري. "
7 " نحن لا يحق لنا أن "نرجو" من العالم الآخر إلاّ بقدر ما "نوسّع" من مجال استعمال عقولنا لا غير. إنّ الرجاء قصد "عملي" محض ولا يحتوي على أيّ مضمون "علمي". ومن يطمع في إنتاج "معرفة" عن الرجاء هو يعامله وكأنّه ظاهرة "وضعية" وليس موقفا روحيا. ولذلك فإنّ الأديان التوحيدية وغير التوحيدية تتعرض غالبا إلى عملية توظيف أداتي واسعة النطاق بمجرد الشروع في تفسيرها بشكل نظري وكأنّها "معارف" قابلة للبرهنة عليها. ليس ثمة إساءة للإيمان مثل تقديمه في ثوب معرفة يمكن تبريرها بشكل نظري. وفي المقابل لا ينبغي أبدا فهم "العملي" وكأنّه مجرد سلوك منفعي أو براغماتي. أجل، لا يخلو أيّ نمط من الرجاء من نوع ما من الغايات والمقاصد، إلاّ أنّها منفعة "متعالية" وبراغماتية "عقلية" وقبلية. إنّ القصد هو أنّ العملي لا يعني هنا أكثر من التشريع الأخلاقي الكوني لأنفسنا باسم فكرة الحرية بقدر مستطاع الطبيعة البشرية كعضو في مملكة الكائنات العاقلة المفترضة. العملي في صلب عقولنا وليس خارجها. إنّه معنى الحرية كعنصر "باطني" في نمط عقولنا كبشر. باطني أي صادر من طبيعتها من حيث نـزوعها العفوي إلى الحرية. "
8 " والحال أنّ الإنسان لا يصبح "شخصا" كريما (بالمعنى التوحيدي)، أي "ذاتا حرة" (بالمعنى الحديث) إلاّ بقدر ما يُعامل بوصفه غاية في ذاته وليس كوسيلة أبدا. "
9 " أن نوسّع العقل يعني هنا أن نقرّ له بحقه في مجال آخر أكبر من حدود التجربة الممكنة حيث يعمل ويقف العقل النظري المنتج للعلوم. إنّ الموقف إذن جغرافي وقانوني بالأساس: يريد كانط إعادة رسم خارطة العقل البشري بحسّ جغرافي جديد، والفلاسفة عنده هم جغرافيو العقل البشري الأكثر خطرا. الفلسفة هي القدرة على رسم خرائط جديدة لعقولنا، وذلك بتوسيع مساحة المعقول في كل مرة. ومن لا يمكنه توسيع عقولنا أو مجال استعمال عقولنا هو فيلسوف أبتر، أي وقف عند بضاعة العقل النظري لا يحدوها. "