Home > Work > المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات
1 " ان ضعف النظام الاسلامي الذي كان قائما منذ القرن الثامن عشر كان في فقدانه لجانبه الديني الاخلاقي و المعنوي وليس بسبب تدينه في عالم حديث قائم على العلاقات المادية. لكن دنيويته كانت وضيعة ودنية بشكل لم تكن تستطيع ان تقدم اية فلسفة لحياة جديدة منسجمة مع العصر الراهن. ولم يكن شعور الجمهور العام بالعزلة والاستبداد والضيق نتيجة لتطبيق قواعد دينية من قبل سلطة مجسدة لسلطة الهية, لكن بالعكس من ذلك بسبب فقدان مثل هذا التطبيق الذي انعكس في تحلل الادارة والسلطة والجيش والمسؤولية وسيادة التجارة والمنفعة الفردية والسرقة والتبذير السلطاني والتهتك حتى في الاوساط الدينية العليا, كما وصفها رجال ذلك العصر. "
― برهان غليون , المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات
2 " هنا نجد اساس المشكلة الطائفية. فالطائفية ليست الدين ولا التدين. وانما هي بعكس ذلك تماما اخضاع الدين لمصالح السياسة الدنيا, سياسة حب البقاء والمصلحة الذاتية والتطور على حساب الجماعات الاخرى.ومن الجدير بالذكر ان اكثر الناس عداء للصهيونية التي هي الطائفية المدفوعة الى حدودها القصوى كانوا وما زالوا من المتدينين اليهود الفعليين الذين رفضوا الدخول في السياسة الدنيوية. بينما اكثر الناس صهيونية هم الصهيونيون المتدينون الذين ينطوي شعورهم على نبع لا ينضب من العداء للأديان الاخرى ومن الانغلاق على الذات ورفض الاعتراف بالتاميز للآخرين. "
3 " وبهذا كانت الذاتية الثقافية تتحول الى رموز شكلية وودائع يثير المساس بها او تغييرها هيجانات سريعة وردود افعال عنيفة. واصبح هذا التمسك الشكلي المبالغ فيه بالذاتية يعكس في الواقع العجز عن تطوير ثقافتهم الخاصة وقيمهم واغنائها. وكان ذلك يخيف المصلحين منهم ويدفعهم الى التمسك بالشكليات. وهكذا اضاعت الهوية الذاتية ايضا جوهرها وحركتها الداخلية المؤدية الى الوطنية والعصبية. اصبحت الذاتية واهية كالزينة التي تخفي تحتها الفراغ الكامل. "
4 " وقد تم ولا شك ابعاد الدين عن السلطة لدى تكوين الدول العربية التي تبنت بشكل عام والى حد كبير المبادئ والقوانين الوضعية الا فيما يتعلق بالحقوق الشخصية. لكن بقدر ما عجزت الفكرة القومية عن انشاء ذاتية ووعي جديدين دهريين جماعيين جاء هذا الابعاد بنتيجة معاكسة هي تعميق دور الدين في السياسة ولان عدم المساواة زاد ولم يتراجع, ولان الظلم والاستبداد تعاظم ولم يندثر, ولان الثقافة الحديثة رفعت الى السلطة فئة قليلة وجديدة وابعدت الى الهامش كل الجماعات الاخرى, اخذت السياسة الوضعية ذاتها تستنفر الدين وتعتمد عليه. لم يعد الدين هو السياسة التي تطلب العدل والاعتدال والتسامح والاخوة, ولكن السياسة التي اخذت تتغذى بالنزاع والصراع هي التي بدأت تستخدم الدين وتؤسس للآلية الطائفية. "
5 " كان وراء المسلمين تاريخ ما زال حيا في الاذهان شديد الاختلاف عن التاريخ الحديث الغربي الذي دخلوا فيه دون ايه فكرة سابقة او معرفة بقوانينه ووقائعه ومسائله الاساسية. وفي الوقت الذي كانوا يؤكدون فيه على هويتهم الاسلامية لخوض الصراع ضد الاجنبي كانوا ينكرونها في الممارسة العملية ويفقدون الثقة بها ويعظمون في سرهم منجزات وثقافات وذاتيات الشعوب الغربية المسيطرة. "
6 " وقد خلق هذا الوضع نوعا من الانسداد في الوعي العربي الاسلامي الذي يرفض تطوير القديم خوفا عليه, ويقف حائرا امام المعطى الاجنبي الذي يخاف منه. ومن هذا الانسداد سيتغذى التعصب بالمعنى السلبي للكلمة, اي معارضة الآخر بالرفض المحض والسلبية واستخدام الهيجان مكان التأمل والتفكير والحوار الذي ميز العقود الاولى لليقظة. هذا التعصيب الفكري هو اليوم صفة مميزة للانسداد العقلي. "
7 " فكرة ارتباط الدين بالدولة الشديد العمق في الوعي الشعبي الاسلامي دون شك قد تبخر منذ فترة طويلة بعد زوال الخلافة ونشوء الصراعات السياسية والدينية المختلفة وظهور السلاطين والسلطنات. وقد حاول الكثير من المفكرين المسلمين القدماء ان يفرقوا بين الخلافة والسلطنة على اساس استلهام الاولى لشريعتها في تطبيقها للشريعة الاسلامية, بينما لا تقوم شرعية الثانية الا على مبدأ الغلبة والقوة. وقد اعترف الكثيرون منهم, في سبيل حماية الملة اي الامة وصيانة وحدتها بضرورة التوصية باطاعة السلطان حتى لو لم يكن متمسكا بالشريعة ومطبقا لها. "
8 " وهذا الانشقاق في الوعي السياسي الاسلامي هو الذي ادى الى تحويل الحقبة الراشدية الى حقبة مثالية, لم تحتفظ بتأثيرها العميق في الذهن الا لانها اصبحت رمزا مثاليا يتعارض مع الواقع المعاش ويعكس الطموح الميتافيزيقي الى الوحدة الضائعة للدين والدنيا. "
9 " من هنا العجز عن الانقال الى دولة حديثة بالمعنى الغربي. فقد بقيت الدولة الحديثة سلطة مضافة الى الامة , لا دولة الامة. وغالبا ما اصبحت الوحش الذي يفترس الحريات الفكرية والسياسية وينهب اقتصاد الامة, اي يفترس حرية الافراد وينهب اقتصاد الجماعات. وليس للشكل السياسي السائد هنا اية قيمة جوهرية. فحتى عندما كانت هذه الدولة برلمانية على الطريقة اللبنانية لم تكن تشكل على الاطلاق اطارا جماعيا بالمعنى الايجابي للكلمة. ولم تكن قادرة على بناء الاطار الفكري والسياسي والاداري الذي يوحد الجماعة ويبني اجماعا قوميا, وانما بقيت تعني نفي كل وجود فعلي للدولة واحلال التسوية القبلية بين عصبويات محل الحلول الوطنية. "
10 " ليس المقصود وليس الحتمي ان تسير جميع المجتمعات الغربية ابدا. ولا تبدأ المشكلة الا عندما نعتقد ان هناك خطا واحدا للتاريخ يسير بالجماعات من العبودية الى الاقطاع الى الرأسمالية الى العقلانية الى الحرية والى الديمقراطية والقومية, ونفرض على انفسنا خطط المسيرة الاوروبية ذاتها فنفشل حتما ليس فقط في الوصول اليها ولكن ايضا في الوصول الى اجماع قومي والى وحدة قومية من اي نوع كان. "
11 " للثقافة العليا وظيفة اساسية هي تحقيق شرعية السلطة. وهذه الشرعية تستند الى الاجماع الذي يشرطه الانخراط الطوعي للاغلبية في لائحة قيم مشتركة. وهذا الاجماع ضروري لبروز سلطة اغلبية. فاذا فقدت الثقافة العليا الشمولية والقومية التي تتجاوز التمايزات الثقافية, فقد الاجماع ولم يبق للسلطة اي اساس تقوم عليه الا بميزان القوى والغلبة. وفقد التطابق من ثم بين الثقافة والسلطة وفقدت الطبقة السائدة او النخبة السائدة وحدتها. "
12 " ليس هناك في الواقع دولة دينية وان وجدت سلطة دينية. الدولة هي دائما زمنية اي مؤسسة اجتماعية تأخذ شرعيتها من قدرتها على تجاوز النزاعات التي يزخر بها المجتمع المدني. والدولة الدينية بالمعنى الحرفي للكلمة, اي التي تخضع لسلطة دينية مباشرة, تعكس مرحلة ازمة اجتماعية وقومية وتظل دولة انتقالية بدون شرعية كدول القرون الوسطة الاوربية. "
13 " في النظام القديم كان تناوب الشيعية والسنية, والمعتزلية والاشعرية, ثم الضغط الدائم للمذاهب الصوفية الشعبية وللحركات الباطنية يعكس حيوية النظام السياسي الاسلامي باكثر مما يعكس القمع والتعصب الدينيين. ولم يكف هذا النظام عن عكس الحركة الداخلية السياسية الا مع الانتصار النهائي للسنية العثمانية في معظم الاقطار الاسلامية والعربية. لكن هذا الانتصار لم يستطع مع ذلك ان يختم سلسلة النضال الداخلي الا لأن الإسلام كدولة وحضارة كان قد بدأ يتراجع.عندئذ بدأت حركة الانغلاق الذاتي والفكري. وهذا هو الامر الذي قاد فيما بعد الى انفجار الدولة العثمانية التي عجزت في نهاية القرن الثامن عشر عن ان تبث في النظام السياسي الحيوية التي كان بحاجة اليها.وفي كل مرة كان ينتصر فيها احد الاتجاهات كان يفرض على الاتجاه المعارض تسوية تضعه في موضع الاقلية المشروعة. ولم تكن المعارضة مقبولة اذن الا ضمن نطاق الارض المنزوعة السلاح للمجتمع المدني, وفي حدود استبعادها من السلطة. "
14 " تحقيق الهوية لا يمكن ان يتم الا اذا وجدت ثقافة قابلة لان تكون قاعدة لاجماع عقلي وهذا يتطلب سياسة ثقافية تملك وسائل تحقيقها المادية والمعنوية. وهو لا يمكن ان ينجح بفرض ثقافة عليا مهما كانت عقلانيتها او علمانيتها. وكذلك فيما يتعلق بالسلطة المركزية فالاشتراك السياسي وتعميم المساهمة في اتخاذ القرارات التي تخص مصير الجماعة لا يمكن ان يتطور الا اذا توفرت الوسائل المادية والفنية والمعنوية لتحقيقها, وليست الديمقراطية اليونانية المبنية على الاقتراع العام الا الاشكال التاريخية التي عبرت من مرحلة من المراحل عن تطور نوع من المشاركة السياسية الشعبية الرامية الى بناء سلطة مركزية مشروعة, واغلب الظن لن يكون من الممكن تقليدها مرة ثانية, اذ من شأنها في كثير من الحالات ان تنتج عكس ما كانت مكرسة لانتاجه: اي ان تغلق الباب امام امكانية المشاركة الشعبية. وقد رأينا ذلك في الديمقراطيات التي بدل ان تحطم العلاقات العصبوية كرستها وسدت النظام السياسي امام القوى الاجتماعية المختلفة او الناشئة. "
15 " وهكذا ايضا تم الاغتراب الذاتي لدى الجماعة الدينية والدهرية معا. فقد ظهرت الدولة الدهرية في نظر المسلمين وسيلة لفرض سلطة متهاونة مع الاجنبي ومتعاملة معه. بينما ظهر استمرار اشتغال السياسة الاسلامية بالدين في نظر الدهريين كرفض للاتفاق القومي وكتهديد للدولة القومية الحديثة. "
16 " الوقائع لا تطابق دائماً الاستنتاج المنطقي "
17 " في الوقت نفسه الذي كانت تتمسك في الجماعات الاسلامية بالدين للدفاع عن نفسها وتعبئة صفوفها ضد التسلط الاجنبي كان يدخل في الوعي الاسلامي شيئا فشيئا, وتحت تأثير الهزائم المتواصلة, الشعور بالضعف والعجز وعدم الثقة بالذات. وشعور المستضعفين هذا على الساحة الدولية يعادل شعور المستضعفين من الاقليات على الساحة المحلية. ويزيد من هذا الشعور تعقيدا ذكريات الامجاد الاسلامية التليدة التي كانت ترجع دائما في الثقافة الاسلامية الى التمسك بالدين وبالعودة الى النص القرآني لرأب الصدع وتحقيق الوحدة والاستقرار. "
18 " وبقدر ما ارتبطت العلمانية بالسلطة, هذه السلطة التي بقدر علمانيتها كانت ترتبط ايضا بالاجنبي, نزلت النزعة الدينية الى المعارضة. وبقدر ما ارتفعت الاوساط الاجتماعية التي تتبنى العلمانية في المرتبة الطبقية, نزل الدين الذي كان حامي السلطة في الماضي ضد الهرطقات العامية الى الشارع الشعبي.لكن هذه المعارضة ستبقى سلبية عنيدة وقاصرة معا بسبب فقدانها لنظرية حية ومتجددة تستجيب لمتطلبات العصر والصراع الاجتماعي الحديث. "
19 " جاء فصل الدين عن الدولة في البلاد الاسلامية اذن على يدي الدولة ذاتها قبل ان تتبناه النخب المحلية الحديثة وتدفع بجوانبه الفلسفية. وظهر لهذا السبب ايضا كاستمرار وتطوير لسياسة فصل الجمهور المتزايد عن السلطة وتحرير يد الدولة من سلطة الدين, آخر مرجع شعبي ووسيلة الضغط الوحيد بيد المعدمين من السلطة والعلم. "
20 " ليس من الضروري اذن وجود فلسفة علمانية ونجاحها حتى تتحقق الديمقراطية, ولا العكس ايضا فليس بينهما علاقة وجوب. كما انه ليس من الضروري ايضا لقيام الامة وتوحيد الدولة فلسفة علمانية خاصة. لكن هذا لا يعني ان الديمقراطية الحديثة والامة العصرية , بمعنى المواطنية الواحدة لجميع السكان تقوم بالدين, ولا تستدعي التغيير الفكري والبنيوي. بل يعني ان هذا التغيير له قوانين اخرى مرتبطة مباشرة بالصراع على السلطة, الذي يشمل ايضا الصراع الفكري. والعلمانية ومصيرها السياسي يبينان المشروع الحقيقي والمصير التاريخي للنخبة العربية الحديثة التي بقيت على هامش سلطة الدولة , لا تناضل ضد التيار وانما معه, ولا تسير باتجاه الجمهور وانما بعكسه كي لا تحصد في النهاية الا تبخرها السياسي والفكري وزوالها. "