Home > Work > الفضيلة

الفضيلة QUOTES

8 " واعملوا أن الحياة أبسط من أن تحتاج إلى كل هذه الجلبة والضوضاء، فخذوها من أقرب وجوهها وألين جوانبها، واقنعوا منها بالكفاف الذي يُمسك الحَوْبَاء، ويعين على المسير، فإنما أنتم مارون لا مقيمون، ومجتازون لا قاطنون، ولا يوجد بؤسٌ في العالم أعظم من بؤس رجلٍ مسافرٍ نزل على عين ماءٍ ليطفئ ببردها غُلَّتَه، ويجد في ظلالها راحته ساعةً من نهارٍ ثم يمضي لسبيله، فصدف عنها وظل يشتغل بحفر عين أخرى بجانبها، فلم يكد يبلغ قاعها حتى كان قد نال منه الجهد فهلك دون مرامه ظمأً وعيًّا، ولا يُقْذَفَن في روعكم أني أريد أن أذهب بكم إلى بغض الحياة ومقتها، ولا إلى تعذيب أنفسكم بالحرمان من أطايبها ولذائذها، فالزهد عندي سخافةٌ كالجشع، كلاهما تكلفٌ وتعمُّلٌ لا حاجة إليه، وكلاهما خروجٌ عن القصد وضلالٌ عن السبيل، وإنما أريد أن تترافقوا في الطلب، ولا تمعنوا فيه إمعانًا، فالإمعان فيه والاستهتار به حربٌ شعواء يقيمها القوي على الضعيف، والجشع المتكالب على القنوع المعتدل، يسلبه ما بيده ويحرمه القليل التافه الذي يتبلَّغ به باسم جهاد الحياة، وتنازع البقاء، "

Jacques-Henri Bernardin de Saint-Pierre , الفضيلة

20 " فإنّ للمدنيّة شقاءً كشقاء الهمجيّة لا يختلف عنه إلّا في لونه وصبغته. فإنّ وقوف الإنسان في وسط ذلك المُزدَحم الهائل بين الجواذب المتخلفة، والدّوافع المتعدّدة، وحيرة عقله بين مختلف المذاهب والشّيع والآراء والأفكار يحاول كلٌّ منها أن يجذبه إليه ويسيطر عليه، ويستأثر به، وهو فيما بينها كالرّيشة الطّائرة في مهاب الرّياح لا تستقرّ في قرار ولا تهبط في مهبط، متعبةٌ عقليّةٌ لا قِبَلَ له باحتمالها، ولو أنّه كان أسيرًا في قوم متوحّشين، وقد شدّه آسروه إلى جذع من جذوع النّخل، وأخذ كلّ منهم بعضوٍ من أعضائه يجذبه جذبًا شديدًا ليمزّقوه إربًا إربًا، لكان ذلك أهون عليه من هذه الحالة الّتي لا يستطيع أن يتمتّع فيها بهدوئه النّفسيّ وسكونه الفكريّ كما تتمتّع السّائمةُ على وجهها في مسارحها ومرابعها، فلا يجد له بُدًّا من الفرار بنفسه إلّا حيث يجد نفسه ويظفر كيانه، ولا سبيل له إلى وجدان نفسه والعثور بها إلّا في مثل هذه الصّخرة النّائية المنقطعة الّتي يستطيع أن يجمع في ظلالها ما تفرّق من أمره، وتبعثر من قوّته، ويصغيَ في وسط ذلك السّكون والهدوء إلى صوت قلبه حين يحدّثه أصدق الأحاديث وأجملها عن الخالق والمخلوق، والحياة والموت، والبقاء والفناء، وطبيعة الكون وأسرار الخليقة، فيشعر بالرّاحة بعد ذلك العناء الكثير والكدّ الطّويل كالسّيل المتحدّر من أعالي الجبال، لا يزال يحمل في طريقه الأقذاء والأكدار، فإذا بلغ الحضيض استحال إلى بركة هادئة ساكنة يتلألأ في صفحتها الصّقيلة اللّامعة جمال السّماء وبهجة الملأ الأعلى. "

Jacques-Henri Bernardin de Saint-Pierre , الفضيلة