Home > Work > مطالعات في الكتب والحياة

مطالعات في الكتب والحياة QUOTES

8 " تنقسم معلومات الإنسان من وجهتها العامة إلى قسمين: حقائق خارجية وحقائق ذهنية.
ونعني بالخارجية ما يقابل كلمة (Objective)
وهي كلمة توصف بها الحقائق التي تستفاد من ملاحظة الأشياء الخارجية والتي يمكن تمحيصها باستقراء هذه الأشياء وترتيبها وتجربتها. وتدخل في هذه الحقائق علوم الطبيعة على اختلافها من علم يبحث في الحيوان أو في النبات أو في الجماد، أو على الجملة كل ما يقيده الحس من المشاهدات التي يقوم عليها البرهان من استقراء ظواهر الكون، ولا بد للمشتغلين بتحصيل هذا النوع من الحقائق من دقة ملاحظة وملكة معودة أن تحصر الفكر في مراقبة هذه الأشياء ورد بعضها إلى بعض وأن تلتمس منها تفسير عللها والنواميس التي تؤثر فيها.

ونعني بالذهنية ما يقابل كلمة (Subjective)
وهي كلمة تطلق لوصف الحقائق التي يقوم البرهان على صحتها من بديهة الإنسان ولا يتوقف العلم بأولياتها على المشاهدة والاستقراء. ومنها أصول الحقائق الرياضية أجمع وأصول المنطق والفلسفة الإلهية، ويلحق بها كل ما هو وجداني لدني من المعارف والفنون حتى الموسيقى، فإنها في سبحاتها العالية ما تختلف كثيرا عن كونها معاني موحاة وأريحية ملهمة.

ولهذا تتآخى فروع هذه الحقائق أحيانا وتتآلف العلوم التي تبحث فيها وتتقارب الملكات التي تكون في المشتغلين بها. فيكثر من يجمع بين الفلسفة والرياضة ولا يندر أن ترى من يجمع بينهما وبين الموسيقى معا. فالفارابي مثلا كان فيلسوفا رياضيا مبتكرا في الموسيقى، وفيثاغورس أقدم فلاسفة ما وراء الطبيعة عند اليونان كان يبنى فلسفة الكون كله على النسب الموسيقية بين الأعداد. وقد مر بمصر قبل أيام نابغة من أفذاذ الرياضة هو ألبرت أينشتاين صاحب فلسفة (النسبية) التي دهمت الناس ببدع في تعريف الوقت والفضاء يكفي أن نذكر منها أن الخط المستقيم قد لا يكون أقرب موصل بين نقطتين... وهو فيلسوف رياضي وموسيقار بارع في العزف على القيثار.

وليس يخفى الشبه القريب بين ملامح العظماء من الفلاسفة والرياضيين وملامح العظماء من نوابغ الموسيقيين. فقد تلتبس عليك صورهم حتى تكاد لا تميز بعضهم من بعض ولا سيما في نظرات العين وسعة الجبهة وارتفاعها. وما كان ذلك كما ترى إلا لاتصال ملكاتهم وغلبة الوجدان عليها جميعا.​ "

عباس محمود العقاد , مطالعات في الكتب والحياة

9 " ​تنظر إلى النساء الجميلات في بعض أوقاتهن فيخيل إليك أنهن قد نسين ما فيهن من جمال، وأنهن قد خرجن من حلته عرضًا كما يخرج الملك من طيلسانه ساعة يتبسط فيها بين خاصته وندمائه. أو كما يتنحى صاحب المنصب عن تكاليف منصبه في خلوة من خلواته ليكون رجلا من سواد الناس. أما هذه الفتاة التي رأيتها فلا تنسى جمالها ولا طاقة لها بأن تنساه ولا يسعك أن تتخيلها ناسية له أو عارية منه لأن الجمال فيها والجميلة شيء واحد. وحريّ بها ألّا تنسى جمالها وألّا تُرى بعيدة عنه، إذ كان كل من يراه لا ينساه ولا يسهل عليه بعده. وقد ينسى كل شيء غيره ليذكره.

لها طلعة سماوية المعاني، يدلك كل موقع نظرة من ملامحها على معنى لا يشاركه فيه غيره، وليست كهذه الطلعات المشاعة التي تخفي من ملامحها ما تخفي فلا تنقص من دلالتها شيئا، وقد تزداد على الإخفاء جمالا، لها طلعة كاملة تزيدها ملامحها حسنًا وتزيد هي حسن ملامحها، وكأنما تعلم ذلك من نفسها فهي تأمرك أن "تؤمن" بجمالها إيمان العجائز ولا تقبل منك أن تتقراه وتبحث أسراره وتتأمل مغازيه بينك وبين نفسك!! وأحسبها لو لم ترَ جمال محياها قط في مرآة لما كانت لها وقفة غير وقفتها هذه ولا مشية غير مشيتها ولا مخيلة غير هذه المخيلة التي أراها. ذلك لأنها لا تملك مع جمالها إرادة ولا هوى.. فهو الذي يبدو في العيون كما يشاء ولا شأن لها هي به ولا سلطان لها عليه. وكذلك تكون عبقرية الجمال، وكذلك بلاغته التي ترتجلها الطبيعة بلا كلفة ولا ابتذال. "

عباس محمود العقاد , مطالعات في الكتب والحياة

10 " ​​​إذا حضرت مجلسًا تذكر فيه قصة رجل من أهل الدنس والسيرة القبيحة فانظر إلى​ ​السامعين وراقب سحنتهم، إنك ترى أكثرهم يظهرون التقزز والاشمئزاز، فيشدون مناخرهم، ويطبقون شفاههم، أو يشيحون أحيانًا عن المحدث بأبصارهم ووجوههم. وربما اشتد الانفعال ببعضهم فيتفل على الأرض ويمتقع لونه. وإذا توالت هذه الانفعالات في النفس ثبت منها على الوجه لمحة يُعرف بها أهل الترفع والعزوف.
وإذا رأيت أحدًا يمر بشيء مما تعافه الأنفس، وتكره رائحته الأنوف، فانظر إليه تره يفعل ذلك أيضًا، ولكنه هنا يشد منخريه ليعلق أنفاسه فلا تصعد إليهما الرائحة الكريهة، ويطبق شفتيه لئلا ينفذ من بينهما الهواء الفاسد، ويدير وجهه كي لا يبصر مبعث ذلك النتن، ويتفل إذا دخلت الرائحة إلى جوفه فهاجت فيه غدد اللعاب.
فالأصل في الاشمئزاز أنه حركة جسدية، ولذلك كان أثره في الوجه جسدانيٍّا جُبلت عليه الأعضاء للوقاية مما يضرالجسد ويكدر الحواس، وذلك بعض ما يُستدل منه على أن كل معنوي في عواطف الإنسان وخلائقه، فإنما أصله من الجسد أولًا، وأن الإنسان عاش زمانًا في مبدأ خلقه لا حكم عليه لغير الجسم، ولا محرك له غير مطالب الطبع الحيواني من جلب رضى أو دفع أذى.​ "

عباس محمود العقاد , مطالعات في الكتب والحياة