Home > Work > سبعون - المرحلة الأولى
1 " إذا مشيت في شوارع المدينة أزعجتني مناظر كثيرة، وبعضها كان كالخناجر تطعنني في الصميم، فهذا الضابط الكبير في الجيش ـ لماذا يتبختر في مشيته كأن له ديناً في ذمة الكون؟ ألعله يعتز بالسيف على جنبته أم برنّة مهمازيه؟ وأي خدمة تراه يسديها إلى العالم؟ إنه يتعلم ويعلم فنّ تقتيل الناس وتدمير العامر من مساكنهم ومزارعهم. إنه لا ينتج أي خير. فبأي حق يتجبر ويتكبر؟ وتلك السيدة الملتفة بالأطالس، المتوجة ببرنيطة مثقلة بريش النعام، والجالسة بمنتهى الأبهة والاعتزاز في مركبة تجرها ثلاثة جياد مطهمة ـ من أين أطالسها وريش النعام في برنيطتها؟ ومن أين جيادها؟ وكيف لا تخجل من أن تعرضها على أولئك الذين أبدانهم في الأسمال، وجوههم لا تعرف الصابون؟ وهذه المخازن الفخمة تشع في واجهاتها المجوهرات ـ أي نفع منها للجياع والعطاش والمهانين والمقهورين وجميع الذين لا قدرة لهم على التمتع بشيء من محتوياتها؟ إن عقداً واحداً فيها، أو سواراً، أو قرطاً، أو خاتماً قد يطعم ألف جائع، أو يكسو ألف عريان، أو يبتاع الدواء لألف مريض.فكم لعنق سيدة واحدة، أو لمعصمها، أو لشحمة أذنها، أو لخنصرها أن تستأثر بمثل تلك الثروة، وأن يكون لها من الشأن ما ليس لآلاف الآدميين؟ "
― Mikhail Naimy , سبعون - المرحلة الأولى
2 " إنّها الثرثرة تخلق المشكلات , إنّه اللسان يثير النعرات , فلو كان للناس أن يلجموا ألسنتهم عن الكلام لما كان بينهم خصام ـــ فلألجم لساني !وهكذا سكتّ عشرة أيام متتالية لا أنطق بكلمة إلّا إذا دعاني المعلم في الصف للكلام , فما لبثوا أن كفّوا عن محاولاتهم وتركوني وحدي في القوقعة التي خلقتها لنفسي من الصمت والسكينة ـــ ولقد كانت قوقعة دافئة هانئة فسيحة ـــ تمنّيت لو أعود إليها الآن فأبصر وأسمع وألمس جميع الأخيلة والهواجس والأفكار والأحلام التي كانت تعمّر بهاانتهت مدّة الصمت, فرفعت اللجام عن لساني, وعدت سيرتي الأولى بين رفاقي ـــ من بعدها أخذت أشعر أنّني وإن انسجمت في الظاهر مع بيئة أنا فيها , ففي داخلي ما يجعلني أبداً غريباً عنها , وهذا الشعور بالغربة ما انفكّ ينشط ويزداد على مرّ السنين ـــ حتّى بتُّ أعيش في عالمين: عالم خلقته من نفسي لنفسي , وعالم خلقه الناس للناس ـــ والعالمان يتجاوران في حياتي ولكنّهما لا يتزاوجان "
3 " إنّه، على رحابته، لَعالَم ضيّق - عالم يختنق بما تثيره آثامه من غبار ودخان. وغبارة يؤذيني، ودخانه يعميني. وإنّي فيه لغريب، غريب. "
4 " حسبك، وأنت على شفا الهاوية، أن تُعرض عن صوت مثلك الأعلى لتجد نفسك في الهاوية. وتستفيق من بعدها - ولكنك لا تستطيع أن تستردّ ما فات. وتروح تعزّي نفسك بقولك ((ما أنا بالأول ولا بالأخير)) - وبئس العزاء!.. "
5 " دع التقادير تجري في أعنّتهاولا تبيتنّ إلاّ خاليَ الباليما بين طرفة عين وانتباهتهايغيّر الله من حالٍ إلى حالِإي! سبحان من يغيّر ولا يتغيّر! سبحانه كوّن الإنسان آلة عجيبة من الأفكار والأحاسيس ووقّعها أبدع التوقيع. فبينما هي تضجّ بالشكوى، وبالوحشة والألم، وتكاد تستجير منها حتى بالموت - بالفناء - بالعدم، إذا بها، في أقلّ من رفّة الجفن، تتجاوب أوتارها بأعذب ألحان الغبطة، والبهجة، والطمأنينة. فكأن عصا ساحر قد مسّتها. وتلك العصا قد لا تكون أكثر من بسمة، أو نظرة، أو همسة، أو هزّة كتف ويد تأتيها من رفيق، أو صديق، أو حبيب، أو أيّ شخص لا يضمر لها إلاّ الخير. وقد لا تكون أكثر من قطرة ماء، أو نسمة هواء، أو نور سراج، أو كسرة خبز تأتيك وأنت في أمسّ الحاجة إليها. "