Home > Work > العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة: النظرية
1 " لو أصبحت العامية وحدها هى مستودع ذاكرتنا التاريخية لفقدنا أمرؤ القيس والبحتري وابن خلدون وابن سينا ، أي أننا سنفقد كل شىء ، وتصبح كلاسيكياتنا هى أغاني شكوكو وأقوال إسماعيل ياسين "
― عبد الوهاب المسيري , العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة: النظرية
2 " حين تترك الأمم خصوصيتها ، وتتجاوز كل القيم الرومانسية الخاصة بالشخصية القومية ، لتدخل إلى عالم العمومية الرائع الرهيب والأملس ... وهذا هو الطريق الذى سيجعل من بلادنا نسخة باهتة من سنغافورة ، حيث الأوطان فنادق ، والمنازل بوتيكات ، والفردوس هو سوبر ماركت ضخم يحوى كل السلع الضرورية والتافهة ! "
3 " الدولة المركزية أهم الأوثان المطلقة "
4 " يرى باومان أن مشكلة المشاكل بالنسبة للحداثة أخلاقية ، فقد سقط ملف الأخلاق من الحداثة ، مع تزايد النسبية الكاملة. و رغم تحذير دوستويفيسكي من أنه "بدون الإله فإن كل شئ يصبح مباحاً" ، و تأكيد دوركهايم أنه لو تخلخلت "قبضة" العُرف الإجتماعي لانهارت الأخلاق - "فإن العقل الحداثي ظل يؤكد [دون دليل يُذكر] أن سد هذه الفجوة ممكن ، إن لم يكن اليوم فغداً" [الأمر الذي لم يحدث قط!]. و يؤكد باومان أن ثمة حاجة إلى إله ، حتى لو كان الإله إنساناً يسعى للكمال ، لأن غياب المتجاوز يعني تسرّب العبثية إلى كل شئ.و غياب المطلق الديني - في تصور باومان - أدى إلى التمحور حول "الجسد" ، لكن حين يغيب "ما وراء الجسد" تغيب أيضاً فكرة الجماعة و المجتمع و الهُوية الجمعية التي تشترط تجاوزاً للذات / الجسد. و حين يصير الجسد هو المحور ، يكون هو الهدف أيضاً عند النزاع ، و يكون الحل هو الإبادة. "
5 " لعل الوقت قد حان الآن لإعادة النظر في كل مصطلحات العلوم الاجتماعية (ذات الأصل الغربي) لصياغة نماذج و مصطلحات جديدة تتفق و تجربتنا الوجودية المتعينة بعد سقوط المنظومة الاشتراكية ، وبعد علمنة السلوك في العالم الغربي ، وضمور رقعة الحياة الخاصة "
6 " ثم جاءت مرحلة الاستقلال و لم يتغير الأمر كثيرا إذ جاءت نخب علمانية محلية صعدت عملية تفكيك أوصال المجتمع بالقضاء على البقية الباقية من الجماعات المدنية و زادت هيمنة الدولة " القومية" و سطوتها و سطوة مؤسساتها الأمنية ،فهي نخب متغربة منفصلة تماما عن شعوبها و عن خطابها الحضاري ، و قد أسست هذه النخب نظما استبدادية فاسدة قامت باستغلال شعوبها و استمرت في عملية العلمنة دون تحديث .. و قد تم كل هذا بتأييد دول الغرب العلماينة الديمقراطية "
7 " اللامعيارية هي إمكانية كامنة في النماذج المادية التي تطمح لأن يولّد الإنسان المعيارية إما من عقله أو من الطبيعة/المادة و من خلال التطور يكتشف الإنسان أن عقله بلا مرجعية و أنه يدور حول ذاته و يقدس القوة ، و أن الطبيعة/المادة حركة بلا غاية أو هدف ، و من ثم لا تصلح مصدرا للمعيارية ، ومن ثم يتم الانتقال من العقلانية المادية إلى اللاعقلانية المادية ،و من التحديث و الحداثة إلى ما بعد الحداثة "
8 " فصياغة القوانين العلمية بدقة بالغة, و المعرفة العلمية و التنظيم الرشيد قد تساعد كلها على التوصل الى الطرق المناسبة لانجاز الاهداف الاجتماعية, و لكنها لا تساعدنا على الاختيار بين قيم مطلقة او اهداف متناقضة او على اتخاذ قرارات اخلاقية. فالعلم فى نهاية الامر لا علاقة له بقضية اختيار الحياة الفاضلة, فثمة هوة شاسعة بين المعرفة العقلانية و الحكم الاخلاقى. "
9 " ولعل انتشار العنف والإنتحار وشرب الكحول وإدمان المخدرات في البلاد المتقدمة تعبير عن إحتجاج الإنسان على هذا التنميط الذي يقضي على عالمه الجواني تماما وعلى حريته. بل لعل انتشار الإباحية في واقع الأمر إحتجاج على عملية التنميط، فآليات الإشباع الجنسي متاحة بشكل مذهل في المجتمعات الغربية، ومع هذا تتزايد الأفلام والكتب والمجلات الإباحية. فالإنسان التي تقمع حريته تماما يهرب من عالم التنميط إلى عالم فردوسي خالٍ تماما من أي حدود، عالم لا يماثل عالمه المتجانس المحكوم المضبوط، عالم من الفوضى الكاملة يحميه من عالم التنميط والضبط الكامل والواحدية المادية. "
10 " ... و لعل انفراط عقد القومية العربية في الآونة الأخيرة هو ذاته تعبير عن تزايد معدلات الاستنارة و العلمنة و العولمة في محيطنا العربي, بحيث يقوم كل فرد بطرح فرديته و هويته جانبا, كما تترك الأمم خصوصيتها, و تتجاوز كل القيم الرومانسية الخاصة بالشخصية القومية لتدخل عالم العمومية الرائع الرهيب الأملس, و هذا هو المدخل الذي أدي الي غزة و أريحا, و هذا هو الطريق الذي سيجعل من بلادنا نسخة باهتة من سنغافورة, حيث الأوطان فنادق, و المنازل بوتيكات, و الفردوس هو سوبرماركت ضخم يحوي كل السلع الضرورية و التافهة ! "
11 " من الطريف أن كثيرا من دعاة التحديث في العالم العربي يتحدثون بحماس شديد عن الأستنارة والعلمانية,وكيف انهما يؤديان الى تحرير الانسان وسعادته في العصر الحديث. وفي الوقت نفسه يتحدثون باعجاب شديد عن الأدب الحداثي الذي يعبر عن رؤية الأنسان الحديث لمجتمعه - نتاج فكر الاستنارة- والذي يتحدث عن الضياع والخراب والاغتراب...الخ الذي يعاني منه الانسان في العصر الحديث ,ولا يربطون بين الواحد والأخر! "
12 " ....والعلمانية الشاملة , بهذا المعنى , ليست مجرد فصل الدين أو الكهنوت, او هذه القيمة او تلك عن الدولة أو عمى يسمى " الحياة العامة".. وانما تعني فصل كل القيم عن كل من الانسان (في حياته العامة والخاصة) والطبيعة ونزع القداسة عنها , بحيث يصبح العالم مادة نسبية لا قداسة لها , يوظفها الانسان الاقوى لصالحه . ومن هنا نذهب الى ان العلمانية الشاملة هي الامبرالية ,التي قامت بترشيد الانسان الغربي في اطار النموذج المادي,وجيشت الجيوش ,ثم غزت العالم وحولته الى مادة استعمالية يوظفها الانسان الغربي -بوصفه الاقوى- لصالحه . "
13 " الشائع بين معظم الناس و الدارسين تعريف العلمانية بوصفها فصل الدين عن الدولة ، أو نحو ذلك من تعريفات جزئية. و كثيرون يتصورون أنهم في واقع الأمر يديرون حياتهم على أساس مفهوم العلمانية الجزئية. لكن لو دققنا قليلاً في الأمر لاكتشفنا أنه حينما يكون الأمر خالصاً بالتعريف النظري ، فإن ما يُطرح عادة هو مفهوم العلمانية الجزئية ، أما الممارسة الفعلية في معظم مجالات الحياه اليومية فهى تتم على أساس العلمانية الشاملة ( من خلال ما سميناه العلمنة البنيوية و آليات أخرى مثل قطاع اللذة و الدولة المركزية).و الفرق بين ما نسميه "العلمانية الجزئية" و ما نسميه "العلمانية الشاملة" هو في واقع الأمر الفرق بين مراحل تاريخية لنموذج واحد. فالعلمانية ليست مجرد تعريف ثابت ، و إنما ظاهرة لها تاريخ ، و تظهر من خلال حلقات متتابعة. و لذا ، فبدلاً من أن نتحدث عن نموذج العلمانية ، يجدر بنا أن نتحدث عن متتالية نماذجية ، تتحقق عبر الزمان و في المكان. و يمكننا القول أنه في المراحل الأولى من هذه المتتالية تسود العلمانية بالجزئية ، و حينما يكون مجالها مقصوراً على المجالين الإقتصادي و السياسي ، و حين تكون هناك بقايا مطلقات مسيحية و إنسانية ، و حين تتسم الدولة و وسائل الإعلام و قطاع اللذة بالضعف و العجز عن اقتحام ( أو إستعمار ) كل مجالات الحياه ، و حين تكون هناك معيارية إنسانية أو طبيعية / مادية. و لكن.. في المراحل الأخيرة ، و مع تزايد قوة الدولة و وسائل الإعلام و قطاع اللذة ، و تمكنها من الوصول إلى الفرد و إحكام القبضة عليه من الداخل و الخارج ، و مع إتساع مجال عمليات العلمنة و ضمور المطلقات و اختفائها ، و تهميش الإنسان ، و سيادة النسبية الأخلاقية ، ثم النسبية المعرفية ( بإهتزاز الكليات ) - تظهر العلمانية الشاملة في مرحلتيها : الصلبة و السائلة.. "
14 " تمت إشاعة خطاب فلسفي سياسي دولي ساهم في بناء أعضاء هذه النخبة الثقافية المدجنة، التي فقدت إحساسها بخصوصيتها وخصوصية حضارتها واهمية الأشكال الحضارية التي ابدعتها الشعوب غير الغربية، كما فقدت الاحساس بجدوى القيم الاخلاقية المطلقة. ويستند هذا الخطاب الى مقولات ذات طابع عقلاني استناري ظاهر ، ولكنها ذات طبيعة استسلامية كامنة مثل :" الواقعية" و" البعد عن العقد النفسية" و"المرونة" . ومثل هذه المقولات 'العقلانية المستنيرة' تسهل على المثقفين عملية الإستسلام ولعل مفهوم الندية آخر قذيفة من هذه الترسانة العقلانية الاستسلامية ! وهو مفهوم يساوي بين القومية العربية والصهيونية، ويسقط تماما فكرة الظلم والإعتداء والغزو، ويعلن سقوط كل من القوميتين : العربية واليهودية. وبعد هدا الرصد الموضوعي المحايد ، يطلب منا ان نظهر المرونة، ونتحلى بالواقعية، ونتخلى عن العقد النفسية...واخيرا..ان نعترف بالعدو. ويدور هدا الخطاب الدولي حول تفوق الحضارة الغربية ومركزيتها، ولدا يتزايد الحديث عن انجازات هذه الحضارات الغربية وقوتها، وعن قوة امريكا التي لايمكن قهرها(دون ذكر عمليات النهب الامبريالي الذي كان وراء التراكم الراسمالي، ودون ذكر مواطن الضعف والقصور في الامبريالية الغربية). ويتعالى التغني بقوة اليهود واسرائيل ومعدلات النمو العالية فيها(مع اغفال الدعم الامبريالي الذي يتم على جميع المستويات ، وكذلك اغفال قصص الاخفاق الاسرائيلية العديدة)..وبذلك يتحول الغرب واسرائيل الى آلهة والى أداة لضرب الذات بها . ويواكب هذا كله هجوم شرس على الذات وعلى التراث ، تحت شعار موضوعي محايد (نقد الذات)يدخل بنا الى خندق الهزيمة، ويجعل الواقعية آلية الاستسلام للعدو المتفوق "