Home > Work > ثورات العرب.. خطاب التأسيس

ثورات العرب.. خطاب التأسيس QUOTES

1 " لزم السعي إلى التحرر من سطوة العوالم (القديمة وامتداداتها الحديثة) والتفكير خارج فضائها الآسن، وعلى النحو الذي يفتح الباب حقاً لخطاب الفجر الذي ينبلج الأن. وضمن هذا السياق، فإنه يلزم التنويه بأن هذا التحرر لا يتعلق أبداً برفض أي من الدين أو الحداثة، بقدر ما يتعلق بضرورة تجاوز خطاب "القوة" الذي استبد بهما، إلى خطاب "الحق" الذي جرى تغييبه فيهما. وبقدر ما يؤدي هذا التجاوز إلى بناء دولة الحق التي يرنو إليها الكافة في العالم العربي، فإنه سيسمح أيضاً لكل من الدين والحداثة أن يستعيدا روحيهما الحقة.

وفي كلمة أخيرة؛ فإنه الانتقال من الاشتغال بآلية الجمع "التجاوري" الذي يتحدد بحسبها بناء كلٍّ من الواقع والخطاب اللذين يسودان عالم العرب إلى التأسيس المعرفي للمفاهيم التي يتداولها الكافة من الأيديولوجيين السابحين ( على تنوع تياراتهم وأطيافهم) على سطح خطاب راكد، من غير تدقيق وفحص وضبط، بل عبر ضروب فادحة من التعميم والتلفيق التي حالت، وستظل تحول، دون أن تتجاوز مصر، ومعها العرب، واقعاً فرضت عليه إكراهات الأيديولوجيا أن يعيش انقساماً فاجعاً بين جوهره ومظهره؛ وهو الانقسام الذي يسعى العرب، بثوراتهم، إلى تخطيه ورفعه، وغنيٌ عن البيان أن ذلك لن يكون ممكناً إلا بترسيخ خطاب التأسيس. "

علي مبروك , ثورات العرب.. خطاب التأسيس

2 " المبدأ المعرفي: الثقافات تتباين ابتداءً من اختلاف أنظمتها الكامنة العميقة؛ التي تتحكم في طريقة اشتغال المفاهيم والأفكار التي يجري تداولها في إطارها، وتحدد كيفية إنتاجها لدلالاتها ومعانيها. وإذ يحيل ذلك إلى أن النظام العميق الذي يخص ثقافة ما، هو الشرط المحدد لوجودها، والمحقق لتمايزها عن غيرها، وبكيفية يستحيل معها أن يكون هذا النظام موضوعاً للاستعارة والتبادل، فإن ذلك يعني أن قوانين التبادل بين الثقافات؛ التي تتسع للأفكار والمفاهيم والإشكاليات، لا تطال أنظمتها العميقة أبداً.

وهكذا، فإن ثقافةً قد تقترض من أخرى، شيئاً من الأفكار والمفاهيم والتصورات، وبعضاً من العقائد والفلسفات والإيديولوجيات، ولكن من دون أن يؤثر ذلك على فاعلية حضورها، لأن نظامها العميق يكون هو المحدد لطريقة اشتغال ذلك المضمون (المُستعار) كله، ولكيفية إنتاجه للدلالة والمعنى؛ وبما يعنيه ذلك من أن المضمون الذي يجري اقتراضه للتداول في ساحة نظام غير نظام الثقافة التي أنتجته، إنما يجري تشكيله بحسب القوانين الباطنة لنظام الثقافة المُقترِضة، وعلى النحو الذي يسمح لهذا النظام أن يقوم بتوظيف ذلك المضمون لحسابه.

والحق أنه إذا كان على (الجزئي) أن يلعب دوراً في إطار (الكلي)، فإنه يكون محكوماً في أدائه لهذا الدور بقوانين النظام الكلي وثوابته. "

علي مبروك , ثورات العرب.. خطاب التأسيس

3 " فقد بدا وكأن الوعي لم يعرف سبيلاً إلى تجاوز ما أدركه من حقيقة تأخر واقعه وفواته إلا عبر القيام، على طريقة الأسلاف الفقهاء، بتجريد العلة المُنتِجَة لتقدم الآخر الأوروبي (والذي سيكون بمثابة الأصل - أو النص - المُقاس عليه)، والتي ستتحدد تبعاً لها، أو في مقابلها بالأحرى، العلة المؤسسة لما يعانيه واقعه (والذي يقوم هنا مقام الفرع المُقاس) من التخلف والفوات.

وهكذا فإنه قد راح، بنظامه الفقهي في التفكير - الذي لم يعرف غيره آنذاك، والذي يبدو لسوء الحظ أنه لم يتحرر منه للآن - يحيل الحداثة إلى نموذج أو أصل، ساعياً إلى تجريد العلة المنتجة لما يقوم في هذا الأصل (المثال) من مظاهر وأشكال التقدم والهيمنة، ليتسنى له بعد هذا التجريد، على طريقة الأسلاف الفقهاء، أن يستوفي تلك العلة في واقعه الخاص (الذي كان عليه أن يتنزَّل في مواجهة هذا الأصل/الكامل إلى مجرد فرع/ناقص)، فيكسبه، من خلال هذا الاستيفاء للعلة فيه، حداثة الأصل المتقدم (والذي هو الغرب في هذه المقايسة).

ولسوء الحظ، فإن ما راح يجرده ذلك الوعي الفقهي كعلة مؤسسة ومنتجة للحداثة، لم يكن أبداً إلا محض جوانبها الإجرائية والشكلية التي لا ترتقي أبداً إلى مقام العلة المؤسسة والمنتجة لها حقاً، بقدر ما تصلح أن تكون مجرد عوارضها ونتائجها أو ثمارها الخارجية الظاهرة.

..... وهكذا فإنه إذا كانت مقاربة الحداثة كنموذج، وليس كظاهرة مؤطرة ومشروطة بما يجعلها قابلة للفهم، ترتبط بتصورها كمنتج نهائي جاهز، قابل للاجتزاء، والفصل عما يؤسسه ويشرطه تاريخياً ومعرفياً، وعلى نحو يتيسر معه إطلاقه وتنزيله على أي سياق خارج ذلك الذي تبلور واكتمل فيه؛ فإن مجمل آليات الاجتزاء والفصل والإطلاق، هي ما يؤسس لنمط المقاربة السياسية والإيديولوجية بالأساس "

علي مبروك , ثورات العرب.. خطاب التأسيس

4 " لقد أُجبِرَ الوعي، ضمن سياق صدامي، على الاشتغال على نحو امتثالي خالص؛ وأعني من حيث لم تُتَح له الظروف أن يعرف سبيلاً إلى إنجاز النهضة إلا عبر استعارة وفرض نموذجها (الذي اصطدم به مكتملاً وجاهزاً على واقعه الخامل الراكد؛ وبما يقوم عليه من ذلك تصور هذا النموذج قابلاً للاجتزاء والعزل عن السياق الذي تبلور وانبنى فيه من جهة، وقابلاً للفعل والإنتاج، على نحو مطلق، خارج هذ السياق من جهةٍ أخرى.

وإذ يقوم الشرط التاريخي المحدد لتلك القراءة في ظروف ذلك الانبثاق الصدامي للنهضة، فإن الشروط التي تؤسس معرفياً، لهذه القراءات ذات الطابع الامتثالي، تكاد أن تقوم كاملة في طبيعة بناء العقل (العربي) الذي كان عليه أن يقارب إشكالية تلك النهضة؛ والذي يجد ما يؤسسه، بدوره، في قلب الخطاب السائد داخل الثقافة العربية الإسلامية؛ وعلى نحوٍ يبدو معه أن الواحد من كلا الشرطين: التاريخي (والمرتبط بظروف انبثاق النهضة ضمن سياق تصادمي) والمعرفي (المرتبط ببناء العقل داخل الثقافة العربية الإسلامية على نحو امتثالي)، المحددين لطبيعة تلك القراءة، يتجاوب مع الآخر على نحوٍ نموذجي. فإذ النهضة، كفعل تاريخي، تتكشف عن اصطراع قوتين غير متكافئتين حضارياً؛ وعلى نحوٍ كان لا بد فيد للأدنى (المغلوب) أن يخضع لهيمنة وتوجيه الأقوى (الغالب)، فإنها، كفعل معرفي، تتجلى عن اشتغال عقل الأدنى على نحو امتثالي تابع؛ ومما يحيل إليه ذلك من أن وضع "الأدنى أو المغلوب تاريخياً" يتجاوب مع الوضع الذي يكون فيه مجرد "تابع معرفي" للغالب "

علي مبروك , ثورات العرب.. خطاب التأسيس

5 " إن العقل المنتج للمعرفة في حقل الخطاب العربي لا يعرف إلا أن يقفز من واقعه الخاص، من غير أن يفكر فيه ويكتنه نظامه العميق، إلى نموذج جاهز لا يمكن أن يسع واقعه أو يفسره، ابتداءً من كونه (أي هذا النموذج) قد تبلور واكتمل خارج هذا الواقع، ثم جاء يفرض نفسه عليه قسرياً.

وإذن فالعقل الذي يشتغل به الخطاب هو عقل "التفكير بالنموذج"؛ الذي هو الخَلَف الصريح لعقل "التفكير بالنص"، الذي شكَّل وتشكَّل في قلب المرحلة المبكرة والحاسمة من مراحل انبناء الثقافة الإسلامية.

وفي الحالين فإنه حضور العقل، لا كممارسة حرة إبداعية حرة وغير مقيدة بأي سلطة تقوم خارجه، بل هو العقل كممارسة مقيدة بضروب شتى من التحديدات الخارجية؛ وذلك ابتداء من أنه - وعلى الدوام - "إنما ينبني على أصل متقدم مُسَلَّم على الإطلاق" على حد قول الشاطبي، ومع صرف النظر عن المصدر الذي يُستفاد منه هذا الأصل.

وهنا يشار إلى أن التمايز بين عقل أوروبي وأخر عربي أو آسيوي لا يكون من الله أو الطبيعة، بقدر ما يأتي من تباين الأنظمة الثقافية التي يتبلور فيها كل واحد من هذه العقول المختلفة "

علي مبروك , ثورات العرب.. خطاب التأسيس