Home > Author > عبد الوهاب المسيري >

" وقد يكون من المفيد أن نتوقف هنا لنشير إلى ظاهرة لاحظناها في العالم العربي وهي أن كثيرا من الباحثين ممن هزموا من الداخل بدؤوا يوظفون المؤشرات في دعم الهزيمة. وهذه ظاهرة بدأت مع العصر الحديث في العالم العربي. فبعد وصول القوات الغازية الغربية في أوائل القرن التاسع عشر، اهتزت ثقة الإنسان العربي في نفسه، وخصوصا أنه لم يكن يعرف شیئا عن الحضارة الغازية (فكرها - آلياتها - قوانينها - نقاط تصورها)، لم يكن يعرف مثلا أي شيء عن تاريخ النهب الإمبريالي والتراكم الإمبريالي، فتصور واهما أن الإنسان الغربي قد توصل إلى ما توصل إليه من نظام ورخاء من خلال إعمال عقله وبذل جهده وعمله لا من خلال استخدام عضلاته وتكنولوجيا الفتك المتقدمة وعمليات النهب المنظمة. وحينما ذهب الطهطاوي إلى باريس لم يرَ سوی الحرية والثقافة، ولم يرَ الجوانب المظلمة لهذه الحضارة رغم أنه ذهب إلى هناك عام 1830، وهو نفس العام الذي كانت فيه المدافع الفرنسية تَدُك الجزائر الآمنة. وقد يكون من المهم مقارنة استجابة الطهطاوي باستجابة ذلك الشيخ الجزائري الذي قيل له إن عساکر الفرنسيين قد جاءوا لينشروا الحضارة والمحبة في ربوع الجزائر، فأجاب إجابة مقتضبة جدا: لِمَ أحضروا كل هذه المدافع وكل هذه البارود إذن؟ وهذا هو السؤال الذي لَم يسأله الطهطاوي ولَم يسأله كثير من الباحثين ممن وقعوا تحت وطأة الهزيمة واستبطنوها تماما. وبدلا من اكتشاف الواقع الغربي بجوانبه المنيرة والمظلمة، جعلوا شغلهم الشاغل النقل عن الغرب كجزء من محاولة اللحاق به. وبالتدريج، وتحت شعار الموضوعية والواقعية، بدأوا يتجردون من مثالياتهم وتراثهم وإبداعهم وأصبح همهم تقبل الوضع القائم وموازين القوى وأصبح الآخر هو المثل الأعلى. وقد أنتج هذا مجموعة من المؤشرات الموضوعية هي في الواقع تعبير عن الهزيمة. "

عبد الوهاب المسيري , اليد الخفية: دراسة في الحركات اليهودية الهدامة والسرية


Image for Quotes

عبد الوهاب المسيري quote : وقد يكون من المفيد أن نتوقف هنا لنشير إلى ظاهرة لاحظناها في العالم العربي وهي أن كثيرا من الباحثين ممن هزموا من الداخل بدؤوا يوظفون المؤشرات في دعم الهزيمة. وهذه ظاهرة بدأت مع العصر الحديث في العالم العربي. فبعد وصول القوات الغازية الغربية في أوائل القرن التاسع عشر، اهتزت ثقة الإنسان العربي في نفسه، وخصوصا أنه لم يكن يعرف شیئا عن الحضارة الغازية (فكرها - آلياتها - قوانينها - نقاط تصورها)، لم يكن يعرف مثلا أي شيء عن تاريخ النهب الإمبريالي والتراكم الإمبريالي، فتصور واهما أن الإنسان الغربي قد توصل إلى ما توصل إليه من نظام ورخاء من خلال إعمال عقله وبذل جهده وعمله لا من خلال استخدام عضلاته وتكنولوجيا الفتك المتقدمة وعمليات النهب المنظمة. وحينما ذهب الطهطاوي إلى باريس لم يرَ سوی الحرية والثقافة، ولم يرَ الجوانب المظلمة لهذه الحضارة رغم أنه ذهب إلى هناك عام 1830، وهو نفس العام الذي كانت فيه المدافع الفرنسية تَدُك الجزائر الآمنة. وقد يكون من المهم مقارنة استجابة الطهطاوي باستجابة ذلك الشيخ الجزائري الذي قيل له إن عساکر الفرنسيين قد جاءوا لينشروا الحضارة والمحبة في ربوع الجزائر، فأجاب إجابة مقتضبة جدا: لِمَ أحضروا كل هذه المدافع وكل هذه البارود إذن؟ وهذا هو السؤال الذي لَم يسأله الطهطاوي ولَم يسأله كثير من الباحثين ممن وقعوا تحت وطأة الهزيمة واستبطنوها تماما. وبدلا من اكتشاف الواقع الغربي بجوانبه المنيرة والمظلمة، جعلوا شغلهم الشاغل النقل عن الغرب كجزء من محاولة اللحاق به. وبالتدريج، وتحت شعار الموضوعية والواقعية، بدأوا يتجردون من مثالياتهم وتراثهم وإبداعهم وأصبح همهم تقبل الوضع القائم وموازين القوى وأصبح الآخر هو المثل الأعلى. وقد أنتج هذا مجموعة من المؤشرات الموضوعية هي في الواقع تعبير عن الهزيمة.