Home > Author > عبد الرحمن بدوي

عبد الرحمن بدوي QUOTES

9 " ما من مستبد طاغية في العصر الحاضر إلا وادعى أن ما يصدره من قرارات وقوانين إنما هو لـ "مصلحة الشعب".

فباسم مصلحة الشعب صادر عبد الناصر الأموال والعقارات الزراعية والعمائر المشيدة والأسهم والسندات، ثم بدد هذا كله على "مخابراته" ومغامراته المخفقة في اليمن وسائر البلاد العربية وعلى المرتزقة في وسائل الإعلام، وكل هذا في سبيل تمجيد شخصه، و"مصلحة الشعب" من هذا كله براء.

وباسم "مصلحة الشعب" صادر حريات الناس جميعا وأنزل بهم شتى صنوف العذاب، واعتقل عشرات الآلاف من الأبرياء، وكل هذا كان إشباعا لأحقاده ومن أجل الاستئثار وحده بكل سلطة ولإذلال الجميع وإخضاعهم. فأين هذا كله من "مصلحة الشعب"؟!

وباسم "مصلحة الشعب" جرَّ البلاد إلى حربين مدمرتين (حملة السويس 1956، وحرب الأيام الستة في يونيو 1967) بسبب حماقته وخرقة تصرفاته واندفاعه الأهوج دون تبصر، فقُتِل الآلاف من الجنود ومن المدنيين، ودُمِّرت مرافق عديدة، وبُدِّدت على الأسلحة أموال لا تحصى – فهل قتل آلاف المصريين في هاتين الحربين كان لـ "مصلحة الشعب"؟! وهل ضياع كل هذه المرافق والعتاد والأموال قدّم "لمصلحة الشعب"؟!!

وباسم "مصلحة الشعب" أغلق حدود مصر على أهلها، فمنع المصريين من الخروج من مصر طلبا للرزق، فأضاع عليهم فرصا عديدة جدا وعظيمة جدا للكسب بالعملة الصعبة خصوصا في تلك السنوات التي كانت فيها أبواب دول النفط وأمريكا وكندا واستراليا مفتوحة على مصاريعها لاستقبال العاملين – فهل كان إفقار المصري وحرمان مصر من هذه المزايا في "مصلحة الشعب"؟!

والقائمة طويلة تستغرق عدة صفحات من هذه القرارات والتصرفات التي أصدرها عبد الناصر باسم "مصلحة الشعب"، فقضى بها على مقدرات هذا الشعب المصري المسكلين، الذي كانت تُساق غوغاؤه في مظاهرات كاذبة مفتعلة لتأييد هذه القرارات "الشعبية" كما كان حملة مباخر عبد الناصر يُسَوِّدون صفحات جرائده الهزيلة لإحراق البخور حول هذه القرارات "بصراحة "

عبد الرحمن بدوي , سيرة حياتي - الجزء الأول

15 " السنة الكبرى
هي سنة 1952..
وهي سنة الفصل بين عهد وعهد.
كانت الحرية نعمة ينعم الكل بظلالها الوارفة ويطالب دائما بالمزيد، وإذا بها في العهد الجديد حكرا لفرد تحيط به عصابة.
وكانت الكرامة من أعز ما يعتز به المصري، فصارت هدفا لكل اضطهاد ومصدرا لكل حرمان وشقاء.
وكان الأمن على النفس والمال موفورا لكل شخص، فصار الخوف على كليهما يقضّ كل فرد وكل أسرة.
وكان النفاق مقصورا على فئة من الوصوليين وعديمي الضمائر، فأضحى خصلة لشعب بأسره يتنافس الجميع في ممارستها ويتباهي بالتفوق فيها.
وكان التفريط في أي حق من الحقوق الوطنية خيانة تنهار بسببها الحكومات، وإذا بالتخلي عن أكبر هذه الحقوق –وهو حق مصر في السودان- يعد إنجازا عظيما يتباهى به الحكام.
وكانت الهزيمة البسيطة في فلسطين سنة 1948 كارثة تزعزت بسببها الثقة في الحاكمين، وإذا بالهزيمة الساحقة الماحقة في يونيو سنة 1967 تحتشد لها جماهير 9 و 10 يونيو للهتاف بحياة من تسببوا في الهزيمة، ويرقص لها ممثلو الشعب في مجلس الأمة ابتهاجا باستمرار المسؤولين عن الهزيمة في التحضير لهزائم تالية.
وكان ضياع آلاف قليلة من الجنيهات في شراء أسلحة فاسدة جريمة هائلة طالت من أجلها المحاكمات، وإذا بالتخلي لإسرائيل عن أسلحة تقدر بآلاف الملايين أمر هيّن يُكافأ عليه فاعلوه بالمزيد من التمكين لهم من البطش والاستبداد.
وكان النقص في سلعة من السلع أمرا نادر الوقوع، فصار النقص في معظم السلع هو القاعدة وتوفير سلعة هو الاستثناء.
وكانت العلاقات مع البلاد العربية والإسلامية تتسم بالمودة وتبادل المنافع وبالتقدير، فصارت القطيعة والعداوة وعدم التعاون هي الصفات السائدة في هذه العلاقات.
وكان المصري في سائر بلاد العالم مقبولا لا يثير نفورا ولا ارتيابا ولا ازدراء، فإذا به يصبح هدفا لكل مظنة فاسدة، ومدعاة للحذر أو الاحتقار.
وكانت حقوق الإنسان المصري مكفولة بالدستور والقوانين، فإذا انتهكها حاكم ردَّه القضاء إلى الصواب وأنصف المظلومين، فإذا بهذه الحقوق تصبح تعطفا متعاليا من الحاكم على المحكومين، أو تُهْدَر دون مراجعة ولا جزاء، ويضحى الدستور والقوانين ألعوبة في أيدي الحاكم وزبانيته يعبث بها كما يشاء هواه.
وكان الاقتصاد المصري يقوم على أسس راسخة وأرقام صادقة واضحة وينهض بأعبائه رجال وشركات خاصة تخلص في أعمالها وإدارتها، وإذا به يصبح أرقاما بهلوانية يتلاعب بها وزراء مال لا علم عندهم ولا ضمير، يقدمون موازنات زائفة ويخططون خططا وهمية خمسية وغير خمسية مما أدى باقتصاد مصر إلى الإفلاس وتكاثر الديون وانهيار سعر الجنيه المصري انهيارا متواصلا لا يصده شيء حتى أصبح –في مقابل العملات القوية- يساوي أقل من عشرة في المائة من سعره القديم.
وكان الإسكان ميسورا يُعلن في كل مكان عن شقق خالية للإيجار وتتزايد المباني بما يزيد عن حاجة الساكنين، وإذا بالملايين لا يجدون مساكن لهم، فضلا عن عشرات الآلاف من المنازل القديمة التي تنهار كل عام على رؤوس ساكنيها.
وكان لكل مصري الحق في أن يغادر وطنه طلبا للرزق أو للعلم أو للتجارة أو غير ذلك من مطالب الحياة، وإذا بمصر تتحول إلى سجن كبير يُعتقل فيه كل المصريين، ولا يُسمح بالخروج منه إلا لحفنة قليلة جدا من المحسوبين والمقربين إلى الحاكم وزبانيته.
وكانت أدوات الثقافة تتدفق على البلاد في حرية تامة ودون انقطاع أو تشويه ورقابة، وإذا بهذه الأدوات تُمنع من الدخول تدريجيا حتى فقدت مصر الاتصال بمصادر الفكر العالمي.
وما أريد بهذه المقارنة أن أُمَجِّد العهد السابق على 1952، فهيهات، هيهات! ولكن الأمر كما قال الشاعر:
رب يوم بكيت منه فلما .. صرت في غيره بكيت عليه
ولا يعقل مني أن أمجد العهد السابق على سنة 1952، وأنا الذي ناضلت طوال الأعوام السبعة عشر السابقة على ذلك التاريخ ضد مفاسد ذلك العهد، وما استشرى فيه من خيانات في حقوق الوطن ومن مفاسد ومحسوبيات ومظالم واستهتار بالحقوق وعدوان على الحريات. لكن هذه المفاسد والشرور لا تعادل واحدا في الألف مما حدث بعد 23 يوليو 1952 "

عبد الرحمن بدوي , سيرة حياتي - الجزء الأول