-ولكننا لم نتركه. انت تعرف ."
" -بلى. كان علينا الا نترك شيئاً. خلدون، والمنزل، وحيفا! ألم ينتابك ذلك الشعور الرهيب
الذي انتابني وأنا اسوق سيارتي في شوارع حيفا؟ كنت اشعر انني اعرفها وانها تنكرني.
وجاءني الشعور ذاته وانا في البيت، هنا. هذا بيتنا! هل تتصورين ذلك؟ انه ينكرنا! . الا ينتابك
هذا الشعور! انني اعتقد ان الامر نفسه سيحدث مع خلدون وسترين ."!


"-كان يمكن لذلك كله ألا يحدث لو تصرفتم كما يتعين على الرجل المتحضر الواعي أن
يتصرف ."
"-كيف؟ ."
"-كان عليكم ألا تخرجوا من حيفا . واذا لم يكن ذلك ممكنا فقد كان عليكم بأي ثمن ألا تتركوا
طفلا رضيعا في السرير . وإذا كان هذا أيضا مستحيلا فقد كان عليكم ألا تكفوا عن محاولة
العودة ... أتقولون أن ذلك أيضا مستحيلا؟ لقد مضت عشرون سنة يا سيدي! عشرون سنة!
ماذا فعلت خلالها كي تسترد ابنك؟ لو كنت مكانك لحملت السلاح من أجل هذا. أيوجد سبب
أكثر قوة؟ عاجزون! عاجزون! مقيدون بتلك السلاسل الثقيلة من التخلف والشلل! لا تقل لي
أنكم أمضيتم عشرين سنة تبكون!...الدموع لا تسترد المفقودين ولا الضائعين ولا تجترح
المعجزات! كل دموع الأرض لا تستطيع أن تحمل زورقا صغيرا يتسع لأبوين يبحثان عن
طفلهما المفقود ... ولقد أمضيت عشرين سنة تبكي... أهذا ما تقوله لي الآن؟ أهذا هو سلاحك
التافه المفلول


-سألت : ما هو الوطن؟ وكنت أسأل نفسي ذلك السؤال قبل لحظة . أجل ما هو الوطن؟ أهو
هذان المقعدان اللذان ظلا في هذه الغرفة عشرين سنة ؟ الطاولة ؟ ريش الطاووس ؟ صورة
القدس على الجدار؟ المزلاج النحاسي ؟ شجرة البلوط؟ الشرفة ؟ ما هو الوطن ؟ خلدون؟
أوهامنا عنه ؟ الأبوة؟ البنوة؟ ما هو الوطن ؟ بالنسبة لبدر اللبدة ، ما هو الوطن؟ أهو صورة
أية معلقة على الجدار؟ أنني أسأل فقط ."


"-أتعرفين ما هو الوطن يا صفية؟ الوطن هو ألا يحدث ذلك كله ."

وسألته زوجته متوترة بعض الشيء :
"-ماذا حدث لك يا سعيد؟ "

"-لا شيء. لا شيء أبدا . كنت أتسأل فقط . أفتش عن فلسطين الحقيقية . فلسطين التي هي
أكثر من ذاكرة ، أكثر من ريشة طاووس ، أكثر من ولد، أكثر من خرابيش قلم رصاص على
جدار السلم . وكنت أقول لنفسي : ما هي فلسطين بالنسبة لخالد ؟ إنه لا يعرف المزهرية ، ولا
الصورة ، ولا السلم ولا الحليصة ولا خلدون ، ومع ذلك فهي بالنسبة له جديرة بأن يحمل
المرء المرء السلاح ويموت في سبيلها ، وبالنسبة لنا ، أنت وأنا ، مجرد تفتيش عن شيء
تحت غبار الذاكرة ، وانظري ماذا وجدنا تحت ذلك الغبار ... غبارا جديدا أيضا ! لقد أخطأنا
حين اعتبرنا أن الوطن هو الماضي فقط ، أما خالد فالوطن عنده هو المستقبل ، وهكذا كان
الافتراق ، وهكذا أراد خالد أن يحمل السلاح . عشرات الألوف مثل خالد لا تستوقفهم الدموع
المفلولة لرجال يبحثون في أغوار هزائمهم عن حطام الدروع وتفل الزهور ، وهم إنما ينظرون
للمستقبل ، ولذلك هم يصححون أخطأنا ، وأخطاء العالم كله ... إن دوف هو عارنا ، ولكن خالد
هو شرفنا الباقي ...ألم أقل لك منذ البدء إنه كان يتوجب علينا ألا نأتي .. وإن ذلك يحتاج الى
حرب ؟ ... هي بنا ."!


واستدار ، وكان دوف لا يزال منكفئا في مقعده محتويا رأسه بين راحتيه ، وحين وصل سعيد
الى الباب قال :
"-تستطيعان البقاء مؤقتا في بيتنا ، فذلك شيء تحتاج تسويته الى حرب ."/>

Home > Author > غسان كنفاني >

" أي خلدون يا صفية؟ أي خلدون؟ اي لحم ودم تتحدثين عنهما؟ وأنت تقولين أنه خيار
عادل! لقد علموه عشرين سنه كيف يكون. يوماً يوماً، ساعة ساعة، مع الاكل والشرب
والفراش .. ثم تقولين: خيار عادل! ان خلدون، أو دوف، أو الشيطان ان شئت، لا يعرفنا!
أتريدين رأيي؟ لنخرج من هنا ولنعد الى الماضي. انتهى الامر. سرقوه ."


-ولكننا لم نتركه. انت تعرف ."
" -بلى. كان علينا الا نترك شيئاً. خلدون، والمنزل، وحيفا! ألم ينتابك ذلك الشعور الرهيب
الذي انتابني وأنا اسوق سيارتي في شوارع حيفا؟ كنت اشعر انني اعرفها وانها تنكرني.
وجاءني الشعور ذاته وانا في البيت، هنا. هذا بيتنا! هل تتصورين ذلك؟ انه ينكرنا! . الا ينتابك
هذا الشعور! انني اعتقد ان الامر نفسه سيحدث مع خلدون وسترين ."!


"-كان يمكن لذلك كله ألا يحدث لو تصرفتم كما يتعين على الرجل المتحضر الواعي أن
يتصرف ."
"-كيف؟ ."
"-كان عليكم ألا تخرجوا من حيفا . واذا لم يكن ذلك ممكنا فقد كان عليكم بأي ثمن ألا تتركوا
طفلا رضيعا في السرير . وإذا كان هذا أيضا مستحيلا فقد كان عليكم ألا تكفوا عن محاولة
العودة ... أتقولون أن ذلك أيضا مستحيلا؟ لقد مضت عشرون سنة يا سيدي! عشرون سنة!
ماذا فعلت خلالها كي تسترد ابنك؟ لو كنت مكانك لحملت السلاح من أجل هذا. أيوجد سبب
أكثر قوة؟ عاجزون! عاجزون! مقيدون بتلك السلاسل الثقيلة من التخلف والشلل! لا تقل لي
أنكم أمضيتم عشرين سنة تبكون!...الدموع لا تسترد المفقودين ولا الضائعين ولا تجترح
المعجزات! كل دموع الأرض لا تستطيع أن تحمل زورقا صغيرا يتسع لأبوين يبحثان عن
طفلهما المفقود ... ولقد أمضيت عشرين سنة تبكي... أهذا ما تقوله لي الآن؟ أهذا هو سلاحك
التافه المفلول


-سألت : ما هو الوطن؟ وكنت أسأل نفسي ذلك السؤال قبل لحظة . أجل ما هو الوطن؟ أهو
هذان المقعدان اللذان ظلا في هذه الغرفة عشرين سنة ؟ الطاولة ؟ ريش الطاووس ؟ صورة
القدس على الجدار؟ المزلاج النحاسي ؟ شجرة البلوط؟ الشرفة ؟ ما هو الوطن ؟ خلدون؟
أوهامنا عنه ؟ الأبوة؟ البنوة؟ ما هو الوطن ؟ بالنسبة لبدر اللبدة ، ما هو الوطن؟ أهو صورة
أية معلقة على الجدار؟ أنني أسأل فقط ."


"-أتعرفين ما هو الوطن يا صفية؟ الوطن هو ألا يحدث ذلك كله ."

وسألته زوجته متوترة بعض الشيء :
"-ماذا حدث لك يا سعيد؟ "

"-لا شيء. لا شيء أبدا . كنت أتسأل فقط . أفتش عن فلسطين الحقيقية . فلسطين التي هي
أكثر من ذاكرة ، أكثر من ريشة طاووس ، أكثر من ولد، أكثر من خرابيش قلم رصاص على
جدار السلم . وكنت أقول لنفسي : ما هي فلسطين بالنسبة لخالد ؟ إنه لا يعرف المزهرية ، ولا
الصورة ، ولا السلم ولا الحليصة ولا خلدون ، ومع ذلك فهي بالنسبة له جديرة بأن يحمل
المرء المرء السلاح ويموت في سبيلها ، وبالنسبة لنا ، أنت وأنا ، مجرد تفتيش عن شيء
تحت غبار الذاكرة ، وانظري ماذا وجدنا تحت ذلك الغبار ... غبارا جديدا أيضا ! لقد أخطأنا
حين اعتبرنا أن الوطن هو الماضي فقط ، أما خالد فالوطن عنده هو المستقبل ، وهكذا كان
الافتراق ، وهكذا أراد خالد أن يحمل السلاح . عشرات الألوف مثل خالد لا تستوقفهم الدموع
المفلولة لرجال يبحثون في أغوار هزائمهم عن حطام الدروع وتفل الزهور ، وهم إنما ينظرون
للمستقبل ، ولذلك هم يصححون أخطأنا ، وأخطاء العالم كله ... إن دوف هو عارنا ، ولكن خالد
هو شرفنا الباقي ...ألم أقل لك منذ البدء إنه كان يتوجب علينا ألا نأتي .. وإن ذلك يحتاج الى
حرب ؟ ... هي بنا ."!


واستدار ، وكان دوف لا يزال منكفئا في مقعده محتويا رأسه بين راحتيه ، وحين وصل سعيد
الى الباب قال :
"-تستطيعان البقاء مؤقتا في بيتنا ، فذلك شيء تحتاج تسويته الى حرب . "

غسان كنفاني , عائد إلى حيفا


Image for Quotes

غسان كنفاني quote : أي خلدون يا صفية؟ أي خلدون؟ اي لحم ودم تتحدثين عنهما؟ وأنت تقولين أنه خيار<br />عادل! لقد علموه عشرين سنه كيف يكون. يوماً يوماً، ساعة ساعة، مع الاكل والشرب<br />والفراش .. ثم تقولين: خيار عادل! ان خلدون، أو دوف، أو الشيطان ان شئت، لا يعرفنا!<br />أتريدين رأيي؟ لنخرج من هنا ولنعد الى الماضي. انتهى الامر. سرقوه .

-ولكننا لم نتركه. انت تعرف ."
" -بلى. كان علينا الا نترك شيئاً. خلدون، والمنزل، وحيفا! ألم ينتابك ذلك الشعور الرهيب
الذي انتابني وأنا اسوق سيارتي في شوارع حيفا؟ كنت اشعر انني اعرفها وانها تنكرني.
وجاءني الشعور ذاته وانا في البيت، هنا. هذا بيتنا! هل تتصورين ذلك؟ انه ينكرنا! . الا ينتابك
هذا الشعور! انني اعتقد ان الامر نفسه سيحدث مع خلدون وسترين ."!


"-كان يمكن لذلك كله ألا يحدث لو تصرفتم كما يتعين على الرجل المتحضر الواعي أن
يتصرف ."
"-كيف؟ ."
"-كان عليكم ألا تخرجوا من حيفا . واذا لم يكن ذلك ممكنا فقد كان عليكم بأي ثمن ألا تتركوا
طفلا رضيعا في السرير . وإذا كان هذا أيضا مستحيلا فقد كان عليكم ألا تكفوا عن محاولة
العودة ... أتقولون أن ذلك أيضا مستحيلا؟ لقد مضت عشرون سنة يا سيدي! عشرون سنة!
ماذا فعلت خلالها كي تسترد ابنك؟ لو كنت مكانك لحملت السلاح من أجل هذا. أيوجد سبب
أكثر قوة؟ عاجزون! عاجزون! مقيدون بتلك السلاسل الثقيلة من التخلف والشلل! لا تقل لي
أنكم أمضيتم عشرين سنة تبكون!...الدموع لا تسترد المفقودين ولا الضائعين ولا تجترح
المعجزات! كل دموع الأرض لا تستطيع أن تحمل زورقا صغيرا يتسع لأبوين يبحثان عن
طفلهما المفقود ... ولقد أمضيت عشرين سنة تبكي... أهذا ما تقوله لي الآن؟ أهذا هو سلاحك
التافه المفلول


-سألت : ما هو الوطن؟ وكنت أسأل نفسي ذلك السؤال قبل لحظة . أجل ما هو الوطن؟ أهو
هذان المقعدان اللذان ظلا في هذه الغرفة عشرين سنة ؟ الطاولة ؟ ريش الطاووس ؟ صورة
القدس على الجدار؟ المزلاج النحاسي ؟ شجرة البلوط؟ الشرفة ؟ ما هو الوطن ؟ خلدون؟
أوهامنا عنه ؟ الأبوة؟ البنوة؟ ما هو الوطن ؟ بالنسبة لبدر اللبدة ، ما هو الوطن؟ أهو صورة
أية معلقة على الجدار؟ أنني أسأل فقط ."


"-أتعرفين ما هو الوطن يا صفية؟ الوطن هو ألا يحدث ذلك كله ."

وسألته زوجته متوترة بعض الشيء :
"-ماذا حدث لك يا سعيد؟ "

"-لا شيء. لا شيء أبدا . كنت أتسأل فقط . أفتش عن فلسطين الحقيقية . فلسطين التي هي
أكثر من ذاكرة ، أكثر من ريشة طاووس ، أكثر من ولد، أكثر من خرابيش قلم رصاص على
جدار السلم . وكنت أقول لنفسي : ما هي فلسطين بالنسبة لخالد ؟ إنه لا يعرف المزهرية ، ولا
الصورة ، ولا السلم ولا الحليصة ولا خلدون ، ومع ذلك فهي بالنسبة له جديرة بأن يحمل
المرء المرء السلاح ويموت في سبيلها ، وبالنسبة لنا ، أنت وأنا ، مجرد تفتيش عن شيء
تحت غبار الذاكرة ، وانظري ماذا وجدنا تحت ذلك الغبار ... غبارا جديدا أيضا ! لقد أخطأنا
حين اعتبرنا أن الوطن هو الماضي فقط ، أما خالد فالوطن عنده هو المستقبل ، وهكذا كان
الافتراق ، وهكذا أراد خالد أن يحمل السلاح . عشرات الألوف مثل خالد لا تستوقفهم الدموع
المفلولة لرجال يبحثون في أغوار هزائمهم عن حطام الدروع وتفل الزهور ، وهم إنما ينظرون
للمستقبل ، ولذلك هم يصححون أخطأنا ، وأخطاء العالم كله ... إن دوف هو عارنا ، ولكن خالد
هو شرفنا الباقي ...ألم أقل لك منذ البدء إنه كان يتوجب علينا ألا نأتي .. وإن ذلك يحتاج الى
حرب ؟ ... هي بنا ."!


واستدار ، وكان دوف لا يزال منكفئا في مقعده محتويا رأسه بين راحتيه ، وحين وصل سعيد
الى الباب قال :
"-تستطيعان البقاء مؤقتا في بيتنا ، فذلك شيء تحتاج تسويته الى حرب ." style="width:100%;margin:20px 0;"/>