" وأبصر في المباني و المساكن , والمتاجر , والمصانع , والمعابد , والمستشفيات , والثكنات , والمقاهي , والملاهي , والمحاكم , والسجون , ودور العلم والفنّ وغيرها وغيرها من أصناف المباني التي يشيدها الناس لشتى الغايات والمناسبات .
ففي المساكن أبصر أرحاماً تمتلئ وأرحاماً تفرغ . وأبصر طفولة تحبو إلى الصبا , وصبا يندفع نحو الشباب , وشباباً يعدو إلى الكهولة , وكهولة تهرول إلى الشيخوخة , وشيخوخة تدبّ إلى القبر . أبصر عيوناً تدمع , وعيوناً تضحك , وعضلات يفتّتها الوجع والهلع , وأوداجاً يفجّرها الحقد والغضب . أبصر هموماً تتلبّد غيوماً , وغيوماً تنقشع عن نجوم .أبصر حياة الناس في جدّها وهزلها , وفي مدّها وجزرها .
وفي المتاجر أبصر باعة يترصّدون الشاري ترصّد العنكبوت للذبابة . والكلّ قد علقوا في شباك لا براح لهم منها . إنّها شباك الإله الساحر الماكر القهّار الذي اسمه الدينار .وفي المصانع أرى بشراً يعالجون ماكينات لا لحم فيها ولا دم , ولا فكر لها ولا قلب . ولكنها تستعبد الذين يعالجونها , فتمتصّ لحومهم ودماءهم , وتستبدّ بأفكارهم وقلوبهم بإسم التقدّم وإسم الدينار .
وفي المعابد أرى بخوراً وشموعاً تحترق , وجباهاً تنطح الأرض , وأكفّاً ترتفع إلى فوق , وأيدياً تقرع الصدور , وشفاهاً تتمتم ابتهالات وتسابيح وتضرعات . فلا أرى الجباه تشرق بالنور , ولا الأكفّ تمتلئ بالخيرات , ولا الصدور تتطهّر بالبخور , ولا الشفاه تسيل بالبركات .
وفي المستشفيات أرى المباضع تعمل في اللحم والعظم , وفي الأحشاء والأمعاء . وأرى الجراثيم في سباق مع العقاقير , والأسرّة تترنّح بالأوجاع , والذين تجنّدوا للدفاع عن العافية ضدّ السقم أرى بعضهم يطعن العافية في الظهر .ولا عجَب , فلو أنتصرت العافية على السقَم لما كان لهم ما يعملون . فمن سقم الناس رزقهم ورضا الدينار الذي بإسمه يسبّحون .
وفي الثكنات أرى أقواماً جعلَت منهم شرائع الناس دمى وآلاعيب وذبائح تقدمها لطاغوت يدعى الدولة أو الأمّة .وهذه الدمى لا تملك من أمرها غير واجب الطاعة العمياء والخرساء . فلا حق لها في الصياح , أو النباح , أو الشكوى مهما تكن المهام المنوطة بها . إنّها هناك لتزرع الموت ولتحصد الموت عند الحاجة . وأكرِم بزارع الموت وحاصده من بطل !
وفي المقاهي والملاهي أرى الناس يتدافعون بالمناكب هرباً من فراغ هائل في نفوسهم , تزحف فيه الثواني بأرجل من رصاص فتضيّق عليهم أنفاسهم وتكاد تُزهق منهم الروح .إنّهم يستجيرون من الرمضاء بالنار , ويهربون من الدبّ إلى الجبّ , ويطفئون عطشهم إلى الماء القراح بالماء الأجاج .إنهم يملأون الفراغ بالفراغ , ويطردون السأم بالسأم , وتبقى الدقائق . أمّا هم فيتهرّمون .
وفي المحاكم أرى رجالاً تجلببوا بسلطان القانون . ورجالاً ونساءً يستجدون منهم العدل والرحمة بإسم القانون . وأرى الرحمة والعدل يقرعان أبواب المحاكم قرعاً موصولاً , فلا تُفتح لهما الأبواب , ولا يُسمح لهما بالدخول .
وفي السجون أبصر الآلاف المؤلفة من الذين قضى عليهم القانون بالعيش ضمن جدارن كالحة , قاسية , عابسة بينها وبين الشمس المحيية والهواء الطلق والنظافة المنعشة جفاء مقيم . مثلما قضى عليهم بالحرمان من كلمة لطيفة , وبسمة عذبة , ولمسة مؤنسة , وبضروب من التعذيب والتهشيم والتحقير يقشعّر لها حتى الشيطان الرجيم . أولئك هم الذين في طبائعهم ما ليس يأتلف وطبيعة القانون . ولذلك يطيعون طبائعهم ويعصون طبيعة القانون . فيقتلون لا حيث يأمر القانون بالقتل بل حيث تأمرهم طبائعهم وينهاهم القانون . ويحبّون حيث الحبّ جريمة , ويتزوّجون حيث الزواج زنا في عرف القانون .ويأكلون من طيّبات ما رزقهم ربّهم عندما تكون تلك الطيّبات في حوزةٍ غير حوزتهم . فهم لذلك جَرَب وطاعون ونفايات كريهة في مجتمع سليم الروح والبدن , وطاهر النفس والأنفاس . والقانون الساهر أبداً على سلامة المجتمع وطهارته يرى الخير كلّ الخير في نبذهم وحصرهم ضمن السجون ريثما من رجاساتهم يتطهّرون .
وفي دور العلم والفن أبصر حشوداً من الطلّاب والطالبات وقد أقبلوا ينهلون المعرفة . وها أنا منهل من تلك المناهل . فأي المعرفة هي معرفتي ؟ وماذا نهلت من غيري لينهله غيري مني ؟ ولو أنّ ما نهلته كان يطفئ عطشاً لأطفأت عطشي . فكيف أروي غيري وأنا عطشان ؟ كيف أنير لغيري السبيل وأنا أسير في ظلمة دامسة ؟ كيف أكحّل أجفان غيري بمرود الجمال وأجفاني يتآكلَها الصديد والرمَد ؟ كيف أحرّر غيري من ربقة الأرض والسماء وطواغيت الهموم والشهوات , وأنا رقيق السماء والأرض , والشهوة والهمّ ؟ "
― Mikhail Naimy , اليوم الأخير